ركائز التحديث الأربع
محمدحسين الرفاعي
إنَّ التحديث في العالَم العربيّ يقوم على الاِعتدال، أو لا يكون من جذره.
إنَّ الاِعتدال إنَّما هو علاقة الوعي بالـ [بين- بين]، قَبلَ الحكم عليها على أنها اللا- موقف.
إنَّ الحكمَ، غير الواعي بذاته، إنَّما هو عنف معرفي، واِستهتار فكري؛ أو ببساطة هو هلوسة فكرية، لا ثَمَّ ما هو أسهل منها.
هذيان مأخوذٌ بالسباحة والتحليق أيضًا في عالَم الأحكام الجاهزة.
يركن الفكر الكسول إلى الأحكام الجاهزة بفعل حاجته الماسة إلى السكينة، السكن وقد صار هُويَّة الفكر؛ والطمأنينة، الاِطمئنان وقد صار هدف الفكر.
إنَّ كسل الفكر يظهر، على نحو جليٍّ، من خلال الحكم على القلق بوصفه حالة عدمية.
ولكن القلق، من حيثُ إنَّه علاقة بالمجهولية التي من شأن الموضوع، هو نمط وجود متجدِّدٍ في الذَّات العارفة، في كلِّ مفصلِ وعي، أو في كل منعرج من منعرجات الحقيقة الحديثة وما بَعدها.
إنَّ الإقامة في الـ [بين- بين]، أكثر من كونها اللا- موقف، هي الاِنفتاح على طَرَفَيْ المعرفة القائمة على الواقع.
معرفةً واقعيَّة محسوسة، ومعرفة واقعيَّة غير محسوسة.
الأولى تظهر عَبرَ نتاج الحواس، الثَّانية تختفي في تحديد الحواس، وبذلك هي تظهر بالاِختفاء، وتحتجب بالظهور.
هو ذا القَبْليُّ Priori الذي يقوم برأسه في التفكير الفلسفي الحديث في كلِّ تصيُّرٍ للتفكُّر (التفكير على نحو موضوع خاص).
إنَّ الـ [بين- بين] ليست لا- موقفًا بل هي الموقف الأصليّ في المعرفة الفلسفيَّة والعلمية، في الـ[ههنا- و- الآن]. لماذا؟
لأنَّ المعرفة بالمجتمع والإنسان، علميَّاً، لا تقوم على ثُنائيَّات المعرفة العِلميَّة في علوم الفيزيقا والحساب؛ إمَّا وجود أو عدم، إمَّا صحيح أو خاطئ، إمَّا أسود أو أبيض، إمَّا واحد أو صفر، وهكذا دواليك؛ بل هي تقوم على الـبين- بينيَّة التي بين طَرَفَيْ التناقض؛ وفي هذا الحقل ثَمَّ عددٌ لا متناهٍ من الإشكالات والإشكاليات التي تتوفَّر على إمكان أن تُصبِح نظريَّاتٍ وقوانينَ ضابطةً وقواعدَ تعميمٍ علميَّة.
إنَّ البين- بينية إنَّما هي تعالقٌ بما هو يتبدَّى على أنَّه متعدِّدٌ ومتنوعٌ ومختلف، لا ينفك عن الظهور بوصفه كذلك، أي من جهة ما هو مفتوح على التغيُّر.
إنَّ التعددية، ضمن اِمتحان التَّساؤل عن الإنسان في الوجود في العاَلم، إنَّما هي من أسس العلاقة بالعالَم، مفهومةً كضروبِ إمكانٍ موضوعيَّةٍ، على نحوٍ ما بعد حديث.
وحتى نكون منطلقين من عصر ما بعد التحديث، علينا أن نعي اِتجاهين: اِتجاه الاِنتقال الجذري من الحداثة إلى ما بعد الحداثة (الذي مثَّله جان فرانسوا ليوتار، وميشيل فوكو، وتوماس كون، وجان بودريار)، واِتجاه إعادة إحياء الحداثة، ومعاودة تحديثها (الذي مثلته مدرسة فرانكفورت، ويورغن هابرماس، وإدغار موران، وأكسل هونيث).
ولكن كل هذا لا يعني شيئًا من دون التَّساؤل عن تواشجه البنيوي معنا، نحن الذين نقوِّمَ وجودنا في كلِّ مرةٍ في المجتمعات العربيَّة.
إنَّ التحديث في مجتمعاتنا يتطلَّب تساؤلاً من نوع جديد، وبالاِنطلاق من منظور جديد، ووفقًا لأسس فهم جديدة.
لكن، قَبلَ كل ذلك علينا أن نميز بين مستويات أربعة من صيرورات التحديث، في العالَم العربيّ؛ وهي تنهض على أنقاض ما تركته الممارسات الفكريَّة، الآيديولوجية تارةً، والدينية تارةً أخرى، من خلط ودمج وتلفيق لم تؤدِّ إلاَّ إلى المزيد من الفوضى المعرفيَّة في التَّساؤل عن العلاقة مع العالَم.
وفي هذا الصدد، نشير مباشرةً إلى مفاهيم أربعة تؤسس لمستويات أربعة في التعامل مع المعرفة العالَميَّة، وكيفيَّة توظيفها في سياق بناء الفكرة "العِلميَّة التي تشتمل على محطات بناء الموضوع العلميّ"، والفِكَر "جملة الأفكار المعيِّنة للعلاقة بالخارج"، والأفكار "جملة التصوُّرات والاِفتراضات والمفاهيم المحدِّدَةِ لنمط العلاقة مع موضوع الفكر" في عالَمنا العربيّ.
الفكرة تكون علميَّة متى كانت تؤدي دورًا في علميات بناء الأبحاث العِلميَّة الآكاديمية؛ الفِكَر آيديولوجيَّةٌ تُحدِّد مسارات الفعل السياسي؛ والأفكار فلسفيَّةٌ تقوم بإعادة قراءة الواقع على صعيد ثُنائيَّة "المعقول- والمحسوس".
وفي هذا الدرب، غير المتعيَّن بعدُ دائماً قَبْلِيَّاً، إلاّ متى بدأ السير عليه، وعلى نحو بَعْدِيٍّ على الدوام، علينا أن نقف طويلاً عند المفاهيم الآتية، على أقل تقدير:
مفهوم التحديث: ترتبط عمليات بناء التحديث في المنظومة الفكريَّة والمعرفيَّة في بلداننا العربيَّة بممارسات فكرية بحثية تعي الهدف، والوسيلة، والكيفية.
بمعنى أنها غائية عقلانية أخلاقية. فهي تضع نصب أعينها عمليَّة تحديث الفكر العربيّ في علاقة مباشرةٍ مع العالَم، لكن عَبرَ الأخذ بنظر الاِعتبار الاِنطلاق من الذَّات العربيَّة والإسلامية على نحو ما تقتضيه الهُويَّة العربيَّة والإسلامية.
وفي هذا السَّبيل، تُصبح الكيفيَّة قائمة على بناء وإعادة بناء المفهوم على نحو عالَميٍّ، لكن بطرق مفتوحة قبليَّاً على أخلاق العالَم.
أعني هي، أي الكيفيَّة، تُحدَّدُ بالاِنطلاق مما يُحافظ على الإنسان، والأنسنة، في المجتمع؛ لكن ليس مجتمعنا فحسبُ، بل المجتمع العالمي.
مفهوم التغريب والاِغتراب يرتبط بفعل خضوع وخنوع واِستسلام. والتخلي كُلِّيَّاً عن الهُويَّة العربيَّة، وبالتالي تذويت الذَّات بمصادر معرفية ووجودية وأخلاقية ليست من تراث الذَّات العربيَّة.
ينتج عن ذلك، بوصفه قائمًا على عدم الوعي بالوعي الحديث من جهة كونه لا يكون إلاَّ نقدًا ونقدًا مضادَّاً على الدوام، على نحو العالَميَّة، وبالتالي هو يشي بالكثير من الإشكالات والإشكاليات المُصطنعة والمُفبركة على نحو آيديولوجي، عن ذلك ينتج تيار ونظرة مضادة آيديولوجية لا تقع على الضد منه فحسبُ، بل هي تقوم بكل مستطاعِها في سبيل الوقوف في وجهه.
لكن، بخلط صريح بين مستويات إعادة بناء الفكر العربيّ هذه؛ أي نصبح أمام محاربة ومكافحة التحديث والتجديد والتغريب والاِغتراب والثورة الفكريَّة والتنمية وإعادة البناء، فقط من أجل أن فكرًا متغرِّبًا مُصابًا بعمى عقلي لا يعي التمايز بين المستويات هذه.
مفهوم التجديد والإصلاح يشيران مباشرةً إلى ضرب من تناول المعرفة، وحدود المعرفة، ومصادر المعرفة، من خلال منظار إبستيمولوجي (معرفي يحدِّدُ الموضوعيَّة على نحو علمي) لا يحصر المعرفة في ذاتها، ولا لذاتها، ولا من ذاتها، ولا بذاتها.
إنَّه يعي التذاوت على أنَّه علاقة الذَّات بالآخر، ويفهم التذوُّت بوصفه علاقة الذَّات بالعالَم.
أعني هو يأخذ المعرفة في علاقتها بالخارج، ولـ ، أي في سبيل رسم معالِم الطريق لأنْ تأخُذَ المعرفةُ منحى الفهم، والتفاهم، والتفهيم، أي العلاقة بالآخر- الإنسان من حيثُ كونه كائنًا فاهِمًا، وذلك يشتمل على معنى أن تُصبِح المعرفة من خلال التوسُّط الذي للآخر فيها، وفي بنائها، وفي عمليات إنتاجها.
وبالتالي، بالتوسُّط هذا، نكون أمام معرفةٍ هي تقوم برأسها متى توفَّرت شروط الإمكان لفهم الأرضيَّة الإبستيمولوجيَّة العالَميَّة التي لها، وموضوعيَّتِها، ومنهجيَّتِها. إنَّ ذلك يُستجلى بهذي الثُنائيَّات المَنْهَجيَّة الدقيقة:
-1 [الخارج- والداخل]، اِنطلاقًا من خارج حقل- الفهم الخاصّ بالمعرفة.
-2 وذلك ضمن ضروب الأنسنة، والنقد- والنقد المضاد.
-3 وبواسطة الشروط التي يُتوفَّر عليها بالعودة إلى [الترانسندنتالي (الـ- ما- فوق- قَبْلِيٍّ)- والتجريبي] الذي من شأن موضوع المعرفة، ومصادرها الضاربة في جذر التاريخ.
وهكذا، فإنَّ مفهومي التجديد والإصلاح لا يرتبطان كما قد يُتصوَّر في الوهلة الأولى بالمعرفة ذاتها، بل بالعلاقة مع خارج المعرفة، أولاً وفوق كل شيء.
-4 مفهوم الأزمة والثورة، من خلال الثُنائيَّات الخاصَّة بالتجديد والإصلاح، والوعي بها، أي الوعي بوظيفتها الموضوعيَّة والمَنْهَجيَّة، تنفتح المعرفة على الخارج بعامَّةٍ، وعلى الخارج الذي يخصُّها بخاصَّةٍ.
وفي هذا السياق تأتي المضامين الموضوعيَّة التي من شأن الأزمة العِلميَّة داخل المعرفة، وبذا، تظهر المنظورات النظريَّة المختلفة في تناول المعرفة والتساؤل عنها، وبالتالي الأخذ بها على أنَّها في موقع الإشكال، والإشكاليَّة.
لا يمكن فهم الأزمة من دون تمييز صريح بين المشكلة والإشكال والإشكاليَّة. يقوم التمايز بين المفاهيم الثلاثة هذه من خلال فهم المقولات الفلسفيَّة التي تقع على درجة عالية من التجريد العلميّ؛ ولكن أيضًا هي لها دورٌ فاعل في الواقع العملي. أعني ضمن البارادايم (باراديغم) الذي من خلاله تفهم المعرفة ذاتها؛ ولا يكون ذلك من دون [العلاقة- مع- الخارج].
إنَّ [هُويَّة- الخارج] في علاقة مباشرةً مع [تراثِ- الذَّات]؛ ولكن أيضًا في صراع معرفي. تتسم المشكلة بالسعي نحو الكشف عن سبل حلها، ويأخذ الإشكال معنى عدم الإجماع والاِتفاق بين العلماء والفلاسفة والباحثين عن مضامين بعينها، فيما تُفهم الإشكاليَّة على أنها صراع الذَّوات الفاهِمَة والفاعلة في الفهم، ونحو الخارج، حول منظور الحقيقة، ووظيفتها.
وهكذا، تقع المقولة، والمقولات، على أنها خارج إطار البداهات الفلسفيَّة؛ أعني، فيما بعد الحداثة فصاعدًا.
ومرَّةً أخرى، ومن أجل أن الإيضاح إنَّما هو المهمة القائمة برأسها التي للفكر، وإذا نظرنا على نحو متأنٍّ بتمعُّنٍ للمعركة في الفكر العربيّ، لا نعثر إلاَّ على ماهيَّة الخلط، وصيرورته، وبِنيته.
إنَّها معركة الخلط بين مستويات، ومفاهيم، وطبقات مفهومية، لم يُبنَ الوعيُ بها بعدُ.
ومن أجل أن ننتقل من حالة المعركة هذه، والحروب فارغة المضمون هذه، إلى مستوى الأزمة العِلميَّة في الفهم العالَمي الذي من شأن الإشكاليات الفكريَّة، علينا أن نعي التمايز بين مفهومي العالَميَّة وتعدد العالَميَّة، من جهة، ومفهوم المَفهمة والمَوضَعَةِ من جهةٍ أخرى.
ماذا يعني ذلك؟
إنَّه تساؤل الإمكان.