الشعر تدوين الحياة وليس فهمها

ثقافة 2024/07/14
...

  عادل الصويري

أن تكتب الشعر، لا يعني أنك تحاول فهم الحياة، بل أنت في أوّلِ سلالمِ تدوينِها.
ثم تبدأ بصعودِ السلالم الأخرى، مع صديقك العدم، وصديقتِك الرؤية، وهما أكثر أصدقائكَ إخلاصاً في رحلتك الكتابية اللذيذة، وأنت تجوب المتاهات بحثاً عن منطقكَ الخاص.
المنطق الذي سترمم به الخراب الذي تراه بوضوح، ولا يراه غيرك، كونك في داخلك رائياً تستقصي مكونات الجمال، وتمشي في خوابي اللغة التي تضيء حدودَ داخلِكَ.
هذا الداخل هو الذات التي تفرضُ سلطتها عليك وأنت تكتب، حتى وإن نفاها مارتن هايدجر لاعتباراته التي لم أكدت في ذات الوقت أنَّ جوهر كل الفنون جوهر شاعري.
إنَّ تدوين الحياة بالشعر، يشترطُ سوءَ فهمِها بالمنظور العام والمبتذل. سوء الفهم هذا يأتي باسترخائكَ الشاعرِيِّ الذي تأخذ به نفساً عميقاً، تطيرُ معه بعيداً عن القلق البلاغي، والوسواس المجازيِّ الذهانيِّ المزعج.
تتخيل نفسك حديقةً تُعبِّرُ عن نفسِها ببساطة فتقومُ بِإغواءِ الأسيجة، وتُقنِعُها بأهميةِ دورِها الذي يوازي أهميةَ العُشب.
أن تكتبَ الشعرَ؛ لتدوِّنَ الحياة؛ معناه أن ترمي لحظاتِ عزلتِكَ حطباً على نارِ جنونِكَ، حيثُ تواجهُ بها العالمَ القابعَ في جنائنَ باردةٍ من الإلكترون.
أن تشرَحَ النخلةَ لا بمنطقِ الأسطورة الرافدينية التي تعطي نكهةً للعلاقة بين النخلةِ والغراب في الجنوب العراقي، حيث تستوطن الغربان أعالي النخيل وتصنع أعشاشها في فروة النخلة.
وعندما يحين موعد جني التمر؛ تتحرك الغربان لتأكل التمر، ولا تكتفي بذلك، بل تعمل على إفساده. ويحدث أن يصاب منقار الغراب بجرثومة في هذا الوقت فيرتاح المزارعون من شروره، بينما يتحسر الغراب على ما أصابه مصدراً أصوات النعيق بحسب الأسطورة.  إذن لابد من شرح النخلة بمنطقٍ ينفي الغراب أصلاً، وينكر وجوده، وبذلك يكون التدوين وليس الفهم. أن تشعل سيجارةَ الكلمات بعود ثقابٍ من الصمت المتناثر على خرائط العدم، وتبدأَ بتدخين يقينياتك القلقة، فتحصلَ على الأشياءِ من نقائضِها، من دون أن تجهد نفسك في قراءة شطر بيت المتنبي: "وَبِضدِّها تتبيَّنُ الأشياء".
وأن تكونَ في صراعٍ مع الحذر؛ لأنَّهُ راكدٌ في وضوحٍ مُعاق، غير قادر على الكشف، فتستبدلهُ باللجوءِ إلى الدُخان، فهو الوحيدُ الذي يكتشفُ المسافةَ بين لحظةٍ تَعَرَّقَتْ بالتأمل، ونافذةٍ تنامُ عليها انتظاراتٌ ونصوص. وبين الوضوحِ المعاق، والدخانِ الأمثل، لامجالَ للوسطية، فهي تَطرُّفٌ مُهَذَّبٌ في بعض الأحيان.
تدوين الحياة بالشعر، يعني ابتكار حياة موازية تطيرُ بجناحَيْ الاقتحام والدهشة.  اقتحام المسكوت عنه، ومواجهته بكل ما يتطلبه الشعر من جرأة ووقاحة مقدمة على أطباق الدهشة الكلامية. هذا التدوين ليس مهتماً بحياة الآلهة أو موتِها، بل ليس مهتماً بنيتشة وما قاله في زمنه. وليس لديه الوقت للمقارنة بين كارل ماركس وآدم سمث، فكلاهما غبيّان من منظوره الجماليِّ. ربما يتماهى مع فرضية فيرناندو بيسوا في أن المأساة كل المأساة تتمثل بالفشل في إدراك أنفسنا بوصفنا مأساويين.
مغامرتك هذه، تسكن صورة الواقع، ثم تلتقطها بفوتوغراف مليء بالخيالات المنتمية للإنسان والحياة بحميمية هائلة، تُشكِّلُ العوالمَ المرئيَّةَ والمحسوسةَ، والتي بدورها تُهَيِّءُ للتأمُّلِ البعيد عن الجهوزية المتوارثة، والقريب من الكشف عن كلِّ ما هو ناءٍ ومستغلق.
لم تكن هذه المغامرة غائبة في السابق، لكنَّها أجَّلَت وحشيَّتَها الرائعة امتثالاً لحكمة اللغة التي لم تقبلْ تأطير المغامرة بمنطق إيديولوجي، يتصارع مع ضدِّه في حرب عالمية بائسة.
الزمن اليوم، هو زمن الانفلات باللغة، وزمن المنفلتين العارفين بأسرارِها، الخارجين من بين أشواك التكرار، والتقليد الساذج، إلى عشب المخيلة والخصوصية، عشبِ التقصّي عن حُلُمٍ متبعثر في زوايا الحياة، فتلملمه مؤمنةً بإمكانية إيجادِهِ من عدمِ الكلام، ومنحِ رئتِهِ هواء المغامرة.
قد تشعر بالوحشة كونك في حالة اشتباك دائم مع اللامرئي واللانهائي، لكن هوِّن عليك، فصفاءُ اللغةِ كفيلٌ بزحزحةِ الشائعِ من التذوِّقِ، ونقلِهِ من عمومه الرتيبِ إلى لحظته المتفردة. سيبدو التلقّي عارياً للوهلةِ الأولى، لكن، وبعد وقت قصير؛ سيكتشف أنَّ عريَهُ الجديد هذا غطاء شفيف وناعم، يختلف كُلِّيّاً عن ذلك الغطاء الخشن بكلِّ ما هو مُشاع ومستهلك وجاهز. غطاء غامض لا يُرى، لكنه جميلٌ في وضوحه، حين يلامس جسد التلقي بهدوء، ويمارس مهمته في اختراق المشاعر والحواس، التي تبدو مستعدة للتعاطي مع هذا الجديد، مقتنعةً أنه سيأخذُها في رحلة أخرى، غير تلك الرحلات المكررة بلا دليل سياحي.
 سرعان ما تتبدد هواجس الوحشة، بعد أن تجد نفسك تجاوزت وبمهارة فائقة كل المنظومات التي وضعت العصيَّ في دواليب تقدم لغتك الراقصة في القول الشعري؛ لتعلن في آن واحد تدوينَ الحياة، وانتصار المجازفة العظيمة.