د.حيدر علي الأسدي
تحفل نظرية الأجناس الأدبيَّة بتعدد الرؤى سواء ما يتصل بالمحاكاة أو البعد البيولوجي أو النظام المؤسساتي المستقل، وسواء كنا نستعرض نظريات أرسطو أو رينيه ويلك أو جان ماري شيفير أو برونتيير أو حتى تلك النظريات التي تركز على الوظيفة الاجتماعيّة والواقعيّة لنص أدبي ذهب إليها فلاسفة وأدباء الواقعية الاشتراكية أو مدرسة فرانكفورت وغيرهم.
وأعني هنا "لمختلف الأجناس الأدبيّة والفنيّة" فإنّ ثمة ما يتصل "بالبعد الاجتماعي" لطريقة التعاطي مع الأجناس الأدبيّة أو اتخاذها "الشكل" المعبّر عن آمال وطموحات وأزمات المجتمعات بمفاصلها المختلفة "الثقافية، السياسية، الاقتصادية، الروحية، التاريخية".
إذ يمثل كتاب كل عصر مرحلة من مراحل التفاعل الأدبي والثقافي مع قضايا مجتمعاتهم، وهذا ما يمكن ملاحظته منذ اتخاذ الملاحم والأساطير كثقافة للمجتمعات الحضارية الأولى التي كانت ترتكن إلى تفكير يتسق مع الأبعاد الخيالية والبطولية في تلك الأجناس "الملامح والأساطير"، بما يعبر عن خلجات الإنسان الأول في تلك الحضارات والمجتمعات "تشبه إلى حد ما طبيعة مراحل الطفولة وما يجب أن يوجه لهذه المراحل من خطابات/ خيال وبطولة وتفاعل وتفكير...".
وهو الأمر الذي ينطبق على ثقافة المجتمعات الإغريقية الأولى التي كانت تذهب باتّجاه جنس أدبي أرستقراطي بمعنى الكلمة قائم على طقوس أداء وعملية تلقي ("فرجة أرستقراطية لما يعرض من أفعال وقيم بخاصة تلك التي تتعلق بالأنظمة الحاكمة ومفهوم الوطن"، وهو الفن المسرحي.
فكان رائجاً في تلك الحقبة المسرح الذي يقدم بفخامة شعريّة عالية، فكان الشعر موظفاً باتجاه الفن المسرحي.
والمسرح هو الشكل المعبر عن فخامة عصر الإغريق وحضارتهم والإنسان اليوناني آنذاك، مثلما حفل العرب بمساحات الشعر والحفظ والالقاء البلاغي الفخم نتيجة لبيئات كان يعيشها الفرد العربي، بخاصة في موضوعات الهجاء والتفاخر والرومانسيّة وغيرها من التي تتركز بطبيعة الشخصية المنبثقة من البيئة العربيّة.
والأمر كذلك يذهب إلى الثقافة الرومانية وهيمنة موضوعات العنف وإبراز القوة بطبيعة المجتمع الروماني القائم على التفاخر بالحروب وقوة السلطة الجسديّة للمواطن الروماني، فاندرجت تلك المفاهيم في أدبياتهم وأجناسهم الأدبيّة التي أخذوها من الغير بالتأكيد، ولا سيما الفن المسرحي الذي كان تقليداً واضحاً للإغريق، ولكنه حفل بموضوعات الفحولة والقوة والعنف ومفاهيم المصارعة وإبراز القوة الجسديّة.
والأمر كذلك في أدبيات أمريكا اللاتينية وهيمنة جنس "الرواية"، بل برعوا فيها وخرج منها أدباء كبار وصلوا للعالمية عبر "المحليّة" ومن بينهم "ماركيز".
فقد أصبحت الرواية مدوّنة أمريكا اللاتينية، بل أن تلك الروايات هي الأعلى مبيعاً في العالم، ونال كتابها الجوائز الأهم في العالم.
إنَّ لجوء كتاب أمريكا اللاتينية إلى جنس الرواية بحكم الظروف التاريخيّة لتلك البلدان، وبخاصة الاستعمارين البرتغالي والإسباني، وما نتج عنه من تغيرات كبيرة في بنية المجتمعات، وحتى هيمنة "الباروك" لحقب معينة جاء نتيجة الحاجة إلى المزج بين الفكاهة والتعبيرات الأدبية المبالغ فيها.
ومثلما احتاجت المجتمعات والأمم إلى "الشعر" لاستنهاض وتحريض الأفراد كما يحصل في المقاومة للمستعمر واعتلاء الشعراء لمنصات الاحتجاج والمظاهرات والمسيرات المنددة بهذا الاحتلال فإن العديد من الشعراء العرب كانوا قد استفادوا من جنس الشعر غاية المقاومة الثقافية والتحريضية لأشكال الفساد والاحتلال المختلفة.
وهو ما يفرض الحاجة المجتمعية لإتخاذ الموضوعات أجناسها المتغايرة وفقاً لطبيعة وصول الشكل الادبي الأقرب إلى الجماهير "المتلقي".
ونتيجة للمتغيرات في وسائل التعبير وقنوات التواصل بين منتج النص وبين الجمهور، وخاصة مع التطورات التكنولوجيا الحديثة التي فرضت وسائل تعبيرية جديدة لمنتج النص "الخطاب"، فهل سيكون الجنس المعاصر المفروض تكنولوجيا يمثل "هاشتاك/ ترند" والبوست القصير الذي يستسيغه القارئ عبر تلك النوافذ الالكترونية والذي يتسم "بالبحث عن المختصرات" في ظل عالم ملؤه الفوضى والملل والبؤس، وأصبحت الحقيقة ذات وجوه وأقنعة مختلفة وبمعايير متنافرة.
إذ يمكن طرح تساؤل مهم للباحثين عن الجنس الملائم لهذا العصر من تحديات وتناقضات من الممكن أن تتناغم مع الاحتياجات الثقافية والمجتمعية لطبيعة المجتمعات المرقمنة في ظل كل هذه التطورات والقفزات المعرفية التي باتت تؤهل القيمة الصورية لتحل مكان القيمة المعرفية النصيَّة في إيصال الأهداف والوظائف الفكريَّة للخطاب الأدبي والثقافي والقيمي.
فهل ننجح بخلق جنس أدبي جديد يلائم كل هذه المتغيرات المتسارعة؟، بحيث يكون معبراً عن طبيعة الاحتياجات المعاصرة للمجتمعات المتحضرة تكنولوجياً.