{كأس الأضاحي}.. ملحمة سومريَّة تكشف تاريخ التعسف
د. سلمان كاصد
يبدو أن صراع السلطة والدين صار هاجساً جديداً في الرواية الآن، فمثلما تتمظهر السلطة بوصفها كياناً قمعيَّاً في عالمنا العراقي، نجد نظيرتها، مؤسسة الدين بوصفها منظومة فكريَّة تتجذر عبر عناصر السلطة ذاتها.
في خضم هذا الصراع كان لا بد من أن يتوفر المناخ الضام لهما معا، وبخاصة ضحايا الطرفين كليهما. وبذلك كان المجتمع هو الفضاء الأكثر تضرراً في أبنية الرواية التي تتناول هذا العالم الملتبس.
في ضوء ذلك كان، لنا أن نقرأ الرواية أي بشكل تحليلي دقيق للعناصر الاجتماعية التي يتمحور حولها السرد وتتقاطع فيها نوايا الشخوص من ضمن ما نطلق عليه "مجتمع الرواية".
مجتمع الرواية هو الفضاء الذي يتمثل فيه روح التناقض، ولهذا يمكن القول فيه: إنّه كلما زاد التناقض انتعش روح الاختلاف، حيث يصبح هذا الفضاء الاجتماعي جاذباً، وتشتد هذه التناقضات بخاصة وبأكثر تركيزاً في المجتمع الريفي، كونه موطن الحكايات والخرافة وانسحاق المرأة وقسوة الرجل، كونه سلطة بديلة لسلطة أكبر، تحاول أن تتذرع بالدين وذكوريته التعدديَّة للهيمنة على المرأة تحديداً، وكأنّي أرى أن الرجل الريفي أكثر اقتراباً من الغيبيات لأنَّ الأخيرة تخدم بشكل فوضوي، لا إرادي السلطة الذكوريَّة.
الدليل على ذلك أن الأفعال كلها في هكذا نصوص روائية في عالم السرد قد تخلقت من الفضاء الريفي، حيث نرى أن الرجل هو الباث، الفاعل، المرسل لكل قيم التسلّط بينما بدت المرأة/ الأنثى هي العنصر المرسل إليه، الخانع، المستقبل، الضحية.
لقد بدت المرأة/ الأنثى التي شربت من كأس الموت، والقهر والظلم الاجتماعي، هي بؤرة التدهور التي تقود المجتمع إلى التدهور بكليته أيضا، بحسب الناقد الفرنسي لوسيان كولدمان، الذي لخص مفهوم الرواية لديه بأنها: "تأريخ بحث متدهور عن قيم أصيلة في مجتمع متدهور".
في ضوء ذلك كان المجتمع الروائي متدهوراً في أكثر الأعمال الروائية العراقية، من مثل "الوجه الآخر"، و "الرجع البعيد" لفؤاد التكرلي، و"النخلة والجيران" لغائب طعمة فرمان، و"الشاهدة والزنجي" لمهدي عيسى الصقر، وما جاء بعد مرحلة الريادة الروائية في العراق التي مثلها هؤلاء.
مجتمع الرواية
من هذا المنطلق أجد أن طبيعة المجتمع المتدهور في رواية "كأس الأضاحي" للروائي صلاح عيال والصادرة عن دار ألكا مطلع 2024 للروائي، تتقهقر فيه الأنثى من خلال مؤشر افتراضي نجده يشير إلى صُغِر نسبة الشخصيات الأنثويَّة المشتركة في الصراع الذي تتحرك من خلاله، مقابل نسبة المتسلطين، المتصارعين من الرجال، الذين يخلقون حروبهم النفسية والسلطوية والدينية فيها، ولهذا يتكون مجتمع هذه الرواية من:
1. المجتمع الأنثوي المغدور
"ورود- نرجس الأم- حِسنَة- جوري، الجدة- كاميليا، زوجة "المكلفت" صانع الزوارق- و زهور"
2. المجتمع الذكوري سلطة الدولة والدين
"سامي الضابط - الشيخ سعد الدين- رعد مناحي، فتى سبايكر- حسام الضابط، صفاء الصحفي، شقيق حسام- أحمد الأكتع- جبر-طيف الفتى الجامعي القتيل، وهو الأخ الأصغر لسامي- حمزة الضابط الانتهازي- ياسر المعذب- منذر الأعرج".
كل هؤلاء، الشخوص، يعيشون في مجتمع واحد رسم الروائي قاعدته المفككة، الخالية من الانسجام والانضباط المديني، حيث تتحكم فيه قوانين ريفية قديمة.
همجية تجد أغلب الحلول الخلافية في حل واحد فقط، هو (القتل) و(التشريد) و (إذلال المرأة)، واعتبارها (سلعة) تتبادلها القيم الاجتماعية السائدة، والرغبات الذكورية الجامحة، ومن هذا المنطلق صارت أهم رغبات الرجل أن يتلذذ بجسد المرأة عبر الاغتصاب والاحتقار والطاعة بكل خنوعها.
بناء الرواية
تحفل الرواية بأربعة فصول، ذات تركيب زمني خاص بها، لا يتعلق مطلقاً بزمن الحكاية، بل هي تخلق زمنها الخاص بها زمن الرواية، عبر "الارتدادات" الخارجية والداخلية، وعبر "الاستباقات" التي تومئ لها ولا تؤكدها.
إنَّ طبيعة تركيب الأحداث في الرواية تعاكس تماماً طبيعة ترتيب الأحداث في الواقع، وكأني أرى جمال هذه الرواية في خلق عالمها، لا بوصفه مشاهد متعاقبة كورنولوجية، بل بوصفها زمناً خاصاً بجمالية التركيب والصنعة، لهذا نجد التسلسل الروائي ضمن منظومة:
القسم الأول- مقتل ورود.
القسم الثاني- قدر الورود.
القسم الثالث- سامي وزهور.
القسم الرابع- ورود والجنايات.
بهذا النظام نجد التسلسل الكورنولوجي "التسلسلي" الواقعي للأحداث في زمنها التعاقبي بما نسميه "زمن الحكاية"، بينما يتشكل التسلسل الزمني ضمن نظام آخر في الرواية يعتمد التقديم والتأخير بما نسميه "الزمن الروائي" وهو:
القسم الثاني - قدر الورود (حكاية، جدة نرجس وورود).
القسم الثالث - سامي وزهور (فترة الحكم الثمانيني).
القسم الأول - مقتل ورود (الحاضر السردي).
القسم الرابع - الجنايات وملف التحقيق (بمقتل ورود).
نلاحظ هنا أن السارد، يلعب بزمنه المتدهور (2، 3، 1، 4) بينما على القارئ "المتلقي" أن يعيد الرواية لزمنها الواقعي (1-2-3 - 4)، وبذلك يبقى الروائي صانعاً مخاتلاً، يقدم الجمال عبر الشكل، كما يتصوره، ويبقى المتلقي الصانع الذهني بلا كتابة لأحداث لا بدَّ أن يفك تسلسلها المنهك، الذي يعيد للذاكرة ألقها، ولهذا نجد أن تماسك الرواية عبر تشكيل ذهن المتلقي وعقله الأكثر فهما على أن يتمثل اللذة السردية والصنعة وطبيعتها على وفق هذا الاختلاف في ترتيب الزمنين (زمن الحكاية وزمن الرواية).
شعريَّة الرواية
لقد ابتدأت الرواية من نهايتها في محاولة فنيَّة لقلب الزمن الواقعي لا لخلق الزمن الافتراضي، بل لتشكيل زمن حكائي جديد يخلق متعة استمرار المتلقي في كشف المجهول في عالم السرد.
من هذا المنطلق أجد أن عنوان الرواية نفسها "كأس الأضاحي" بدا شعريّاً ما بين الكأس والضحية، وعليه يصبح واقعياً، لا دلالة شعرية فيه عندما تحذف (الكأس)، وبهذا يعمم العنوان الآخر (الأضاحي) العسف على الجميع بالرغم من أن ما وقع من عسف أغلبه على نساء مجتمع الرواية المغدورات.
في قسم الرواية الأول نجد غرابة حكائية تبدو صادمة عندما نفاجأ بأن سامي الأعور "الضابط الأمني، سابقاً" هو من اكتشف جثة ورود في محاولة تقابلية سلبية بين العمى والإبصار، وبذلك يصبح (نصف شاهد "الأعور") على الواقعة.
الجانب الفني الآخر نجد فيه أن السارد يتنقل من شخصية لأخرى عبر تاريخ تلك الشخصيات، إذ حال ظهور الشخصية الجديدة يبدأ السرد عنها ارتداداً، أي ينقل السارد من الحاضر إلى ماضي الشخصية (ص27) ومثال ذلك شخصية (رعد مناحي، فتى سبايكر).
يقدم صلاح عيَّال أنموذجاً لرواية متشابكة في حياة ومصائر شخوصها تتبعاً للكشف عن جريمة قتل حدثت لفتاة اسمها "ورود"، في حي من أحياء البصرة، يقطنه النازحون من الريف العراقي، وبعضهم من الأهوار القريبة الشمالية للمدينة.
بدا الحوار بين سامي وحسام "الضابطين"، أقرب إلى "الحجاجيَّة" تلك التي وجدناها في الرواية العالميَّة (الجريمة والعقاب، لدستويفسكي)، إذ يبدو أن حوار هاتين الشخصيتين يكشف عن تناقض السلطة وتحولاتها بوصفهما خصما لبعضهما، ولهذا كان اختيار الروائي لهاتين الشخصيتين هو محاولة لتعميق وكشف هذا التناقض.
السرد المفتون
يحاول صلاح عيّال أن يذهب بعيداً لسرد آخر هو (السرد المفتون بذاته) عندما يتحول الصحفي صفاء الأخ الأصغر لحسام إلى أن يكون سارداً لقصة شخصية الضابط سامي بطريقة الكاتب الذي يسرد داخل الرواية، رواية أخرى توثيقاً (انظر ص57 و223)، وكما يبدو أن حوار الصحفي صفاء وسامي بدا تكراريّاً يعود بنا من (ص60) إلى (ص32) وهذا يعمّق لدينا أن الحجاجيَّة الاستجوابيَّة تسحبنا إلى محاولة معرفة "الجريمة والعقاب"، إذ تعرض هنا وجهات نظر مختلفة أزاء النظرة إلى النساء (ص 61)، حيث نجد الضابط سامي الأعور ليس هو ذاته الضابط سامي الآمر الناهي في بداية الرواية.
هنا أتساءل: ما دامت الواقعة تبدو كأنّها جريمة تعرضت لها ورود؟، وما دام سامي الأعور قد اكتشف الجثة أولا، كيف له ألا يحذر من أن يترك دمه على شظايا زجاج القدح المكسورة بيديه عند جثة ورود؟.
ومن جانب آخر تتقابل شخصيتان نسويتان هما (ورود) و (زهور) في مركزين لحكايتين تذهبان فيهما للموت وكل ذلك خلق توازيا واضحا فيما بينهما:
أولا - (ورود)
تستحوذ على الرواية والأحداث السردية التي تتصارع فيها كونها حاضرة وبؤرة حكائية فاعلة، وهي قتيلة مع محققها حسام في حاضر الرواية.
ثانيا - (زهور)
تستحوذ على الملف الذي يقع بيد الضابط سامي شقيق طيف، وهي سجينة سياسية في ماضي الرواية (أسبق من زمن أحداث الرواية).
نلاحظ هنا أن الروائي صلاح عيَّال بدأ يحفر في وجهات نظر الثلاثة شخوص وهم "حسام وصفاء وسامي" عن المرأة ووجهات نظرهم المختلفة بحكم تجاربهم التي وضعوا فيها، وهنا قلت إن حاول أن يتبع نظاماً واحداً، ففضلاً عن نظامه الزماني الذي اتبعه في شكل الرواية، أما النظام الجديد فقد تتبعه لبنية التضمين.
بنية التضمين
1. قصة أحمد الأكتع عندما كان طفلا وزوج أمه (النجار) وحكاية قطع اليد.
2. قصة ثدي نرجس المقطوع. لنلاحظ أن هناك تقابلاً بين قطع يد الأكتع وقطع ثدي نرجس.
3. قصة ضياع العقد في العرس واتهام نرجس، (ذاتها سوسن، التي غيرت اسمها في حي الغجر).
4. قصة الهندي صادق.
5. حكايات الموت بالقتل ورود، جوري، جبر، ناظم/ الأخير شقيق نرجس.
في القسم الثالث من الرواية بدأ تغير واضح في مجتمع الرواية لا يمت مطلقاً إلى القسمين الأول والثاني، كونه يتناول عالماً جديداً، سوى رابط واحد بينهما وهو شخصية "سامي" كل ذلك يجري داخل سجون نظام العسف قبل 2003.
لأتحدث في موضوع آخر حين أقول: أجد أن مقارنة هذا العمل (كأس الأضاحي) برواية "طيور التاجي" لإسماعيل فهد إسماعيل، كونهما روايتين تناولتا عالماً عراقياً متشابهاً واحداً، وهو عالم السجون في الزمن المقبور.
وهذا يقودنا إلى الكشف عن الاختلاف والتشابه بينهما، إذ بدت عوالم رواية "كأس الأضاحي" أكثر حبكة وفنيَّة لأسباب عديدة ومنها:
المعلومة المباشرة - بناء الفضاء الروائي - الدقة في التعامل مع تأريخ الشخوص - النقل الواقعي والاقتراب من الحدث - ربط الحكاية وتشابكها - التعزيز بالتواريخ، وهذا السبب الأخير يذكرنا برواية "وردة" لصنع الله إبراهيم.
يتوغل صلاح عيَّال في عوالم غريبة نجدها غير معقولة فعلاً ومثالنا، علاقة ياسر الذي أشرف على تعذيب سامي واغتصابه في السجن بالرغم من كونه ضابط أمن وفياً لنظامه السياسي القمعي، وهنا بدت الحكايات في الرواية جميعها تلعب على ما هو مروي خارج زمن السرد باستخدام تقنية الاسترجاع ص 202
ومنها:
أولا - اغتصاب ورود (استرجاع)
ثانيا - منذر الأعرج كونه قاتلاً لورود، بحسب وصفي الصحفي (استرجاع).
ومن خلال ذلك نرى أن هذا يبدو نظاما تنضيديا، وهو أسلوب حكائي كلاسيكي اتبعه السارد في نهاية الرواية (ص231) وخاصة بقسم الطب الجنائي باستخدامه: تكرار "أما" في أكثر من موضع سردي في محاولة لتسريع الحدث واختصار بقية الحكاية للانتقال السريع للأحداث.
وأخيراً أقول: إن رواية كأس الأضاحي، رواية لا بدَّ من قراءتها لأنها تشكل رؤية جديدة لعالم
تم الكشف عنه بالرغم من الزمن الطويل الذي مسحته الرواية وتعاملت معه بطريقة غير
تعاقبية مما زاد من نسبة إقبال وشغف المتلقي بمتابعة أحداثها وهذا ما يجعلنا أن نصفها بملحمة
سومرية تروي حكايات طبقات اجتماعية مسحوقة عاشت في جنوب العراق فنزح بعضها إلى أقصى الجنوب بسبب الجوع والسلطات والفكر، واتجه البعض الآخر إلى وسط العراق فأسسوا مدنا
بدأت تضارع عوالم أكثر حداثة فيما بعد.