سايكولوجيَّة قناديل تضيء العتمة

ثقافة 2024/07/15
...

  أ.د. قاسم حسين صالح


وهناك من يرى أن الشاعر يتخذ موقفا واحدا من الحياة، أما أن يكون منطلقا في رحابها كأشعة الشمس، أو منطويا على نفسه.. فهو أما متفائل فرح يملأ قلبه السرور والانشراح كأنه الربيع، أو متشائم مفعم قلبه بالألم والحسرة والحزن كالليل المدلهم أو كالسماء الملبدة بالغيوم. ويخلص إلى أن الشعر يكشف عن شخصية الشاعر  في صنفين:

أما حكيما يحكمه العقل يتمتع بذوق سليم وبصيرة قوية، وأما عاطفي يتعامل مع الحياة بشعور وإحساس فنان مرهف.. ويستشهد، هذا الرأي، بالشاعر بشار بن برد عن الشعراء الذين ينطقون حكما خالدة بقوله "إذا كنت في كل الامور معاتبا/ صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه"، فيما يستشهد بالشاعر ابو فراس الحمداني عن الشعراء العاطفين بقوله: "اراك عصي الدمع شيمتك الصبر/ أما للهوى نهي عليك ولا أمر/ بلى أنا مشتاق وعندي لوعة/ ولكنّ مثلي لا يذاع له سرّ".

ونرى أن الشعور بالاغتراب هو اهم حالة سيكولوجية تدفع الشاعر للتعبير عن حالته..شعرا. وكان أكثر المنشغلين بالاغتراب هم علماء النفس. فشيخهم فرويد يرى أن الاغتراب ينشأ نتيجة الصراع بين "الأنا" والضوابط المدنية، ويحدث نتيجة الانفصام بين قوى الشعور "الوعي" واللاشعور "اللاوعي"، وأن اللاشعور هو القوة الأعظم والأكبر في شخصية الإنسان، حيث يحتوى على الرغبات والدوافع المكبوتة التي تحرّك سلوكه التي لا يستطيع اشباعها في عالم تنغصّه الحضارة.

ولا يضيف علماء النفس المعاصرين تفسيرات جوهرية‘ اذ يرى "مارك وكيري" أن ما يسبب مشاعر الاغتراب هو أن الفرد يذهب بعيدا عن الشيء الأساسي الذي يريده أن يكون، فيعمل أشياء قليلة يرغب فيها وأشياء كثيرة لا يرغبها أو غير قادر على عملها. فيما يرى كوفمان وكوباسا وبرونفين أن المغترب هو الذي يبدو متشاجرا أو خصما مع حالات معقدة يواجهها في حياته، ويشعر بأنه مجهول من قبل الآخرين، وأن ما يقوم به من نشاطات هي فاقدة للمعنى والقيمة والمنفعة، ولديه أحساس ضعيف بالانتماء وشعور بالانقطاع وعدم التفاعل مع الأسرة والأصدقاء أو ميادين العمل. في ضوء ذلك نستنتج بأن نظريات الاغتراب تتفق على أن له سببا، ولكنها تختلف في تحديد ماهية السبب. 

وتفيد الدراسات بأن المغترب يعاني واحدا أو أكثر من مكونات أو عناصر الاغتراب كالإحساس بالعجز وفقدان القدرة على توجيه ما يقوم به من نشاط وفق تخطيطه، أو حين تكون علاقاته بالآخرين أو السلطة مصدر شقاء، فيشعر بالبؤس والقلق والاحباط وفقدان الولع والاهتمام بالأمور الحياتية والشعور بعدم وجود معنى في الحياة. 

وقد يحس المغترب بعدم جدوى الأخلاق فيسلك سلوكا يخرج عن المبادئ الخلقية في سبيل تحقيق اهدافه وغاياته. ويؤدي احساسه بالعزلة إلى التقوقع على نفسه، وقد ينقلب إلى شخص ضد المجتمع، وحين يصل حد الشعور بأن ذاته أصبحت غريبة عليه، فانه يحقد عليها، فينهيها بانتحار بطيء بالإدمان على الكحول أو بانتحار سريع بطلقة.

غير أن هناك نوعا آخر من الاغتراب هو السياسي، ويعني: الشعور بخيبة الأمل والعجز والنفور من العمل السياسي، واكتشاف الفرد أن النظام السياسي الذي حلم به كان وهما، واعتقاده بأن العملية السياسية بكاملها صارت لا معنى لها في وطنه، فيغادره في حالة صراع سيكولوجي، بين أن يكون طاردا للوطن أو مطرودا منه، وبين من يعدّ الرحيل عن الوطن مسألة مشروعة وبين من يعدّه قيمة لا اخلاقية لأنه أناني يهرب بنفسه ويترك الأهل والأحبة للعذابات، وبين من راح يمنّي النفس بشمّ هواء الحرية في الغربة وبين من اختنق بهواء المنفى.

والتساؤل: أي منهم يوسف كبو الذي أصدر مجموعته الشعرية "قناديلٌ تضيءُ خرائطَ العتمةِ"؟ أعني أنه بالتأكيد يعاني من الاغتراب، وألا لما كان شاعرا. ولكن أي نوع، أو أكثر، من الاغتراب يعاني منه؟

يفتتح يوسف قناديله بقوله:"لأن الشِّعْرَ تَحْلِيقٌ صامِتٌ إلى المجردِ/ ها هي الآلهةُ تنظرُ إلينا بدهشةٍ/ لنوقظَ الأرواحَ الراقدةَ في اللُغّةِ/ ونخلقَ من رعشات الأزهار البريّة في غابات الخيال/ حُسْناً أكْمَلَ من حَوّاء".

ما يعني أن يوسف متفائل، وأنه حكيم يتمتع بذوق راقٍ وبصيرة قوية بدليل أنه اختار(78) شاعرا، فنانا، أديبا،عالما، موسيقارا، راقصا أضاؤوا للبشرية قناديل المعرفة والحب والجمال.  

بدأ يوسف قناديله بسقراط الذي يراه: "يمشي مسحورًا على فرشةٍ سماويةٍ/ والفراشاتُ تحومُ حوله/ على اتساع أسئلتِهِ تتسعُ الجهاتُ أمامَهُ/ على اتساع رؤاه تتسعُ الاشياءُ وتترأرأ حقائقَ جديدة/ ويدُ الشمسِ فوقَ خدِّه/ ماثلةٌ أيامُهُ أمامَهُ/ كلافتةٍ تتحفهُ بانتشاءٍ ذهبي".

ويقفز بنا إلى ايمانويل كانط ليوكد بقاء الفلسفة وانتقالها من اليونان إلى أوروبا التي يختمها بحسرة كانط:..آهٍ!" لو يتاحُ لي أن أكملَ ذاتي، كي يكتملَ العالمُ على مدِّ الزمان".

 ما يعني أن يوسف يرى الفلاسفة هم أول من اضاء المعرفة وأحب الحكمة، في مفارقة أنهم برغم حبهم للحكمة لكنهم لم يصلوا إلى فهم كنه العالم ولا فهم أعماق الإنسان، ولهذا نشأت منها عشرات العلوم يحاول كل منها فك لغز العالم والإنسان. 

وعتبي على يوسف لو أنه استكشف قناديل فلاسفة عالمنا العربي واختار منهم ابن باجه، مثلا، فيلسوف السعادة الذي قتل مسموما، وكان في زمانه أشهر فيلسوف في الشرق والغرب وترجمت كتبه إلى اللاتينية، واعتمدت مراجع في الفلسفة.

 ويبدأ يوسف من جديد بإضاءة قناديل تختلف في لونها يستهلها بالسيد المسيح  الذي خصه بأكبر قناديله "435 كلمة": "لم يقلْ لنا أحدٌ عن المسيحِ/ وهو يرتقي منصةَ ذلك الليلِ المشعشعِ/ ما تخفيهِ عيناهُ/ كي نعرفَ أيَّ بعدٍ تجريديّ/ كانتْ تخفيه أحزانُه".

واختيار لمقام الصبا كان مقصودا لكونه فريد من نوعه من الناحية الموسيقية، وأكثرها تأثيرا في النفس، لأنه حزين جدا، ولهذا فأن كبار قرّاء القرآن يفضلونه في ترتيل آياته.

والتساؤل: هل كان اختيار يوسف للسيد المسيح أنه رأي في قنديله، اسطع وأكثر قناديل الأنبياء مجتمعين، تأثيرا في اضاءة خرائط العتمة؟

المسيح أم محمد؟.. في كتابه (الخالدون المئة) بحث المؤرخ مايكل هارت عن أكثر الشخصيات تأثيرا في أكبر عدد من البشر، فخرج بمئة اسم  يتصدرهم  النبي محمد يليه اسحق نيوتن  فالمسيح  ثالثا، علما بأن مايكل هذا يهودي وليس مسلما، ولا علاقة له بالدين، بل هو محايد اعتمد معايير علمية في الانجاز التاريخي لأعظم مائة شخصية في التاريخ، وأنه وضع محمدا اول القائمة ويسوع ثالثا "لاعتقادي أن محمدًا كان له تأثير شخصي في تشكيل الديانة الإسلامية أكثر من التأثير الذي كان للمسيح في تشكيل الديانة المسيحية" بنص تبريره، فلماذا لم يضيء يوسف قنديل النبي محمد وهو الأكثر تأثيرا من كل الأنبياء؟ 

وبالمناسبة أن المسيحية  تنحسر الآن والإسلام ينتشر أكثر! ومع ذلك فأن الناقد ليوسف في هذا الموقف تحديدا قد لا يكون على حق مطلق.. أنه اختار المسيح لأن قنديله اضاء خرائط العتمة قبل قنديل محمد بأكثر من خمسمائة سنة، وأن قنديل محمد استفاد من قنديل عيسى بن مريم.

وعن قنديل شابلن فأن يوسف هنا يقترب من أن يكون عالم نفس في كشف حقيقة شابلن الذي رأى الحياة عن قرب مأساة وعن بعد ملهاة، وأن عصاه ومشيته تقولان للإنسان: "كبرياؤك هي أهم ما في حياتك، وما كان شابلن يعلم أن عصاه ومشيته بشرّتا بفن السينما".

وكان أصغر قنديل وأقواها اشتعالا وأقبحها فعلا هو قنديل نابليون: "كانَ، كلما أتاهُ وحيُ الحربِ/ لِمَحْضِ نزوةٍ/ وهوَ في ثوبِ عاشقةٍ من عشيقاته/ قادَ العالمَ إلى خرابٍ آخرَ". وليته يهديها الآن إلى نتيناهو،وليته اهداها قبل ذلك إلى بوش الذي احرق بغداد. ومع ذلك فان نابليون وصف بأنه قاهر اوروبا وله اقوال رائعة منها: "الارادة القوية تقصّر المسافات، مستقبل الولد صنع أمه من فتح مدرسة أغلق سجنا" مثل الذي خان وطنه وباع بلاده مثل الذي يسرق من مال ابيه ليطعم اللصوص فلا ابوه يسامحه ولا اللص يكافئه. 

وقد بدا يوسف منبهرا بالمتنبي وهو على حق حين وصف شعره بأنه اعجاز وبأنه نبي الكلام. وما كتبه هو انحياز شاعر لشاعر، فيما نحن السيكولوجيون نرى أن المتنبي مصاب بتضخم الأنا، وأن تضخم الأنا هذا هو الذي قتله.

أما مظفر النواب فقد كان قنديل يوسف يختلف عن كل قناديله بألوان ضوئه، وكأنه يقول لكل البشرية: أنا أضيء لكم أنفاقا تخشونها. ولأننا عشنا مع مظفر "واسميت ابني على اسمه" في السجن وخارجه، فقد تحدثنا عن حكايا الليالي العشر التي قضيناها بغرفة واحدة في سجن بغداد المركزي، وعن أول قصيدة حب قالها لفتاة التقاها بشارع الرشيد، شاء القدر أن يصيب سيارتها "الفوكس واكن" بعطل وتطلب مساعدته!