بورتريه سياسي ليوسف عبدلكي

ثقافة 2024/07/15
...

   دمشق: علي العقباني

يشكل البورتريه السينمائي إذا صح التعبير سواء كان روائياً أم وثائقياً أحد أصعب الأشكال السينمائية، لا سيما إن كان الشخص محور الفيلم على قيد الحياة وهو من سيتناول الحديث عن نفسه.

هذا ما قرر شيخ المخرجين السوريين محمد ملص(1945) وبعد 40عاماً ويزيد من السينما عمله في فيلمه الوثائقي الأخير "أنا يوسف يا أبي" ويوسف هنا هو فنان الحفر السوري الفريد يوسف عبد لكي.

يرتبط الرجلان بعلاقة صداقة قديمة جداً تزيد على الثلاثين عاماً، لم يفكر ملص خلالها في أن يحقق فيلماً عن صديقه يوسف بالرغم من التحولات الدراماتيكية الكبيرة في حياة الرجلين والبلاد خلال تلك السنوات، ولكن تعرض يوسف لأزمة صحية عنيفة نتيجة إصابته بفيروس كورونا، يُفكر ملص بشكل جدي ورُغم معرفته بصعوبات الإنتاج بصناعة فيلم عن يوسف عبدلكي والذي يمكن اعتبار تجربته الفنية ذات خصوصية وفرادة  في المحترف السوري الفني المعاصر، والذي رغب ملص خلال حواراته السابقة مع عبدلكي في أن يتضمن الفيلم مراحل عديدة من حياته، أولها الفترة التي أقامها في منفاه بباريس، وعمله على رسم الأشخاص، ومن ثم فترة مجازر (أيلول) الأسود، ومواقفه السياسية وأحداث كثيرة،  وثانيها فترة عمل الرسام على الطبيعة الصامتة، وثالثها العودة إلى الوطن الأم عام 2005 والاعتقال ورسم لوحات عن الشهداء، وصولاً إلى معرضه الأخير عام 2016، واشتغاله على الموديل العاري، ومعرضه الأخير في دمشق، والمستوحاة لوحاته من الحالة السورية مركزاً فيه على حالات الانتظار والسجن والفقد والموت، بحسب ما يقول ملص نفسه وهو ما سنراه في الفيلم والذي سيعنونه ملص "أنا يوسف يا أبي" في إشارة إلى علاقة يوسف بأبيه السياسي المخضرم، فقد كان واضحاً في حياته الأثر الكبير لشخصية والده ودمشق اللتين رسمتا رؤيته ومواقفه السياسية وتجلياتها في لوحاته.

يبدأ ملص فيلمه بعد تيترات الفيلم التي كتبها عبدلكي بخط يده على مجموعة من لوحات يوسف التي بقيت في ذاكرة ملص عبر سنوات طويلة وعلى خلفية باب مرسم يوسف عبدلكي(1951)،  وتظهر بشكل جلي العين الساحرة للباب، يطرق ملص وفريق عمله الباب، يفتح يوسف الباب ويحادثهم ويسألهم: أنتم ترغبون بتصوير فيلم عني فيرد ملص عليه نعم هل ندخل لنبدأ، وهنا ندخل المرسم الكبير الكائن وسط العاصمة السورية دمشق في واحد من أقدم أحيائها الشعبية، حي ساروجة الدمشقي العتيق وحارة  الورد.

يشتغل محمد ملص(1945) صاحب "أحلام المدينة"  1984 و"الليل" 1992و"باب المقام" و"سلم إلى دمشق" والعديد من الأفلام القصيرة منها "القنيطرة 1974) و"المنام" (1988) والحاصل على العديد من الجوائز المحلية والعربية والعالمية على فيلمه الوثائقي هذا من دون جهة إنتاجية ومن دون أي دعم يذكر، ولكن صديقه مدير التصوير السوري وائل عز الدين يقدم له المعدات التقنية، وبعض الدعم المالي، بينما قدم المخرج جود سعيد لإنجاز هذا الفيلم الكاميرا والدعم، ولولا ذلك كما يقول ملص لما كان هذا الفيلم ليرى النور، وربما يمكن تصنيف هذا الفيلم ضمن المشروع الذي اشتغل عليه ملص مع صديقيه، الراحل عمر أميرلاي والمخرج أسامة محمد المقيم الآن في باريس، فقد سبق لهما أن صنعا فيلمين هما "مدرس" وهو عن الرسام السوري فاتح المدرس، والآخر"نور وظلال" عن رائد السينما السورية نزيه الشهبندر، لكن مسارات الحياة السورية أخذت الأصدقاء الثلاثة في مسارات مختلفة فأميرلاي رحل وأسامة غادر إلى باريس وبقي محمد ملص في دمشق يصارع ظروف الإنتاج الصعبة في  سوريا.

الفيلم الذي تبلغ مدته56دقيقة واستغرق التحضير له عامين تقريباً، لم يرغب فيه ملص في تسليط الضوء على عبدلكي الفنان، وإنما ذهب نحو اشتغالاته الحياتية والسياسية بشكل أعمق مستنداً إلى تفاصيل حياته وحكاياته عن مسيرته الفنية والحياتية والسياسية، وأثر ذلك على توجهه الفني في فن الحفر وتحوله عبرها إلى مراحل متعددة تضفي على الفيلم نكهة الحضور الطاغي للوحات والحديث والصورة المشبعة بالروح والألوان والكادرات المشتغلة بعناية كبيرة بين النور والظل واللون والمكان اللافت، وتفاصيل يوميات الفنان في مرسمه وعمله. 

بسردية لافتة يروي عبدلكي في الفيلم عن حياته ويبدأ بالسنوات الـ 15 التي عاشها في دمشق وشكلته وكونته فنياً وسياسياً، ثم تخرجه في كلية الفنون الجميلة عام 1976، حتى ذهابه إلى باريس عام 1980 وبقي فيها 24 عاماً حيث يتعرف هناك على أعمال الفنانين العالميين عن قرب، ويتعلم منها الكثير، وصراعاته الفنية بين المنظور الغربي والشرقي والهوية، ويبدأ هناك أول أعمال الحفر، وملص لتكوين فيلمه قام بتصوير مادة أرشيفية ضخمة لأعمال يوسف عبدلكي، وتشمل لوحات ومنحوتات وصوراً ومشاريع لأعمال حققها الرسام السوري على مدى قرابة نصف قرن داخل سوريا وخارجها، ومن ثم عودته إلى دمشق واستقراره في مرسمه الدمشقي في منتصف عام 2005 ، وهنا تبدأ مرحلة جديدة من العمل الفني والحياة  المتشابكة.