ثورة الحسين.. البدايات والأصول

ريبورتاج 2024/07/17
...

حازم رعد

يطلقُ عادة على المقدمات التي تسبق حدوث الشيء وتحقيق الشيء "سواء كان حدثاً أو فكرة وغيرهما" بالإرهاصات، ويشير المفهوم الى البدايات التي قام فيها الحدث، وكذلك يعني الأصول التي قام وارتكز عليها، وعليه سيكون كلامنا عن إرهاصات الثورة الحسينيَّة في مستويين مهمين هما..
الأول: البدايات التي مهدت للثورة الحسينيَّة.
الثاني: الأصول التي قامت عليها تلك الثورة.
وللحديث عن البدايات التاريخيَّة لا بُدَّ علينا أولاً استحضار "الأيام الأولى لوفاة الرسول الأكرم "ص" وما تلاها من أحداث"، طبقاً للقاعدة الفلسفيَّة التي تقول [لا شيء من لا شيء]، فالأحداث لا تنقطع عن تاريخها الذي يشكل نواتها الأولى في تظهيرها ونموها وتطورها، فبعيد وفاة النبي الأكرم محمد "ص" واعتلاء أبي بكر سلطة الخلافة الراشدة "كأول الخلفاء" بدت ملامح إبعاد الهاشميين عن سدة السلطة "فلم تنط بهم أيٌ من الولايات والمناصب الإداريَّة ولا قيادة الجند" عدا المشورات التي كان الإمام علي "ع" يشير فيها على السلطة آنذاك في ما يتعلق بالقضايا العامَّة التي تتعلق بالإسلام كدينٍ ومجتمعٍ، فتدَّخُله كان استشارياً غير ملزمٍ، وأيضاً كان بمبرر حفظ ومداراة الدعوة الإسلاميَّة حتى لا تنحرف أكثر ممَّا حصل فيها، وهذا الأمر معناه تقويض نفوذ الهاشميين وفتح متنفسٍ لخصومهم التقليديين "بني أميَّة" للبروز على مسرح الأحداث.
ومع الخليفة الثاني والثالث، اختلف الأمر من جهة بني أميَّة فقد تقلدوا مناصب كثيرة وتناوبوا على الولايات، فكانت ولايتا الشام والعراق من نصيبهم بشكلٍ مطلقٍ، وبذلك أحكموا بفضل دهائهم وبفضل أموال المسلمين التي استثمروها لتوكيد نفوذهم من زيادة قوتهم وجمع الموالين والأنصار حولهم، وأيضاً لتغيير وتحريف ما يمكن من المفاهيم التي هي تالياً ستصبُّ في مصلحتهم، وكان معاوية الذي رأس الشام بعد موت أخيه يزيد بن أبي سفيان أكثرهم دهاءً فقد عمل منذ بدايات تسلمه ولاية الشام على قطع الصلة العقائديَّة والدينيَّة مع مركز الخلافة.
ناهيك عن المنهج الذي اتبعه بنو أميَّة في التعتيم الكامل عن فضائل ومزايا أهل البيت "ع"، بل العكس ما جرى هو استئجار عمال "وعاض سلاطين" من محدثين وخطباء يسبون الإمام علي علناً على المنابر واستمرَّ ذلك الى حين تملك عمر بن عبد العزيز ونهى عن تلك السنة، وقد روي أنَّ من أولئك المستأجرين عمرو بن العاص وأبو هريرة وسمرة بن جندب والمغيرة بن شعبة وعروة بن الزبير وغيرهم، وكانت مهمَّة هؤلاء وأمثالهم اختلاق أخبارٍ تذمُّ الإمام علي (ع) وتضفي طابعاً من القدسيَّة على معاوية، وأحاديث تمنع الأمَّة من التذمر من الحاكم الظالم وتحضّ على عدم الخروج عليه، وكذلك تخدير الأمة بافيون "الأفكار الجبريَّة التي ترسخ فكرة أنَّ الناس مجبرون على هذا الواقع وليس لهم الخروج عليه لأنَّ الله قد اختار لهم ذلك والإنسان غير مخيرٍ إزاء ذلك".
إنَّ مرور نحو عشرين عاماً بالسب وتحريف الحقائق والتدليس ونشر الأفكار المضللة، له تأثير كبير في تجهيل أجيالٍ من المسلمين، حتى أنَّه في قبال ذلك قام الإمام الحسين "ع" قبيل وفاة معاوية بعامٍ تقريباً بأنْ عقد مؤتمراً في "منى" جمع فيه بني هاشم رجالاً ونساءً ومواليهم حتى قيل إنَّ عددهم سبعمئة رجلٍ فيهم من الصحابة وعامتهم مئتا شخصيَّة ليحدثهم بفضائل أهل البيت ويفسر لهم من القرآن الكريم ويذكرهم بأحاديث رسول الله، ويعدُّ مثل هكذا مؤتمرات واجتماعات ضداً نوعياً لما قام ويقوم به معاوية من حملاتٍ لتشويه صورة أهل البيت "ع" في أعين عامَّة المجتمع الإسلامي، وأيضاً تعدُّ هكذا ملتقيات حلقة من حلقات التصعيد ضد سلطان معاوية، وكسراً لحواجز التضييق والحصار الذي اصطنعه عليهم لمدى عشرين عاماً.
وعودة على إجراءات معاوية لطمس تراث أهل البيت (ع)، فقد أجرى معاوية سلسلة من الإجراءات الأمنيَّة المشددة وعمليات القتل والإبادة لكل اتباع الإمام علي "ع" المهمين ولعلَّ رأسهم هو حجر بن عدي، وأيضاً عمل معاوية على تحويل النظام من الخلافة الى الملكيَّة فقد عمل كملك في إقليم الشام حتى أنه يروى أنَّه كان يردد "أنا أول الملوك"، وما الخبر الذي ينقل استقباله بموكبٍ كبيرٍ احتفاءً بقدوم الخليفة الثاني على الشام إلا دليلٌ واضحٌ على ذلك، فقد تعجب عمر بن الخطاب من تلك الأبَّهة وذلك البذخ والاستعراض الكبير وسأله عن ذلك فأجاب معاوية بدهاءٍ كبيرٍ بأنَّه في أرضٍ يكثر فيها جواسيس الأعداء ولا بُدَّ أنْ يظهر أمامهم بأعلى حلة وأبهى صورة يكون فيها عز الإسلام، ثم أردف يقول للخليفة الثاني "فإنْ أنتَ نهيتني أو أمرتني فأنا عند طوعك!".
فردَّ عليه الخليفة بأنه لا يأمره ولا ينهاه.
وبذلك ترك الباب له مفتوحاً لفعل ما يشتهيه، فإنَّ سكوت الخليفة رضا بالذي شهده، من هنا كانت أولى حلقات قلب الخلافة الى ملكيَّة، تبعها الصلح الذي أجراه مع الإمام الحسن واختطاف الخلافة منه بإغراء قادة الجند وتشتيت جيش الإمام أحكم قبضة معاوية على البلاد الإسلاميَّة برمتها.
ناهيك عن التشقق والتشظي الحاصل في المجتمع الإسلامي الذي أثر سلباً في الواقع الذي يعيش المسلمون بكنفه وأيضاً ألقى بظلاله السيئة على مفاهيم الإسلام، فهناك في الحجاز الزبيريون الذين اتخذوا لهم دويلة ويطمحون أيضاً بتملك البلاد الإسلاميَّة؛ الأمر الذي أضعف جبهة العلويين "الحسن والحسين" فإنه لمجرد عدم إسنادهم خلافة الحسن وعدم وقوفهم مع الحسين يعدُّ تخاذلاً ومداً لنفوذ الخصم وهو معاوية بن أبي سفيان، وأيضاً هناك الخوارج الذين شقوا الصف الإسلامي، الأمر الذي عزز نفوذ معاوية واشتداد قوته.
أما المستوى الآخر، فهو الأصول التي قامت عليها الثورة الحسينيَّة وشكلت إطارها الفلسفي "الرؤيوي النظري والشرعي العملي" فإنَّ أهم تلك الهياكل التي تنبري أمامنا هو إرادة الإصلاح التي قصدها الإمام الحسين "ع" في ذلك النهوض وذلك المشروع الذي تحمل هو الحسين عليه السلام أعباء القيام به.
والإصلاح يكون وفق اشتراطات أولها: وجود الانحرافات في الواقع وهي الاعوجاجات التي يمكن أنْ نحدَّ لها حداً تاريخياً منذ اغتصاب الخلافة "بحسب المنظور الإمامي للموضوع" فإنَّه كان الانحراف الأول في مسار الشريعة الإسلاميَّة ويتطلب ذلك تدخلاً من شخصيَّة ذات نفوذ ولها الأسبقيَّة والأحقيَّة في هذا الأمر يكون هو قائداً للحراك الإصلاحي لتعديل ذلك المسار أو خلخلته بإحداث اهتزازاتٍ في بِنْية النظام لمنعه من التغول أكثر والتمدد بشكلٍ أوسع، ناهيك عن الانحرافات الأخرى التي جاءت بعرض ذلك الانحراف من الفساد والابتزاز والقتل وانتهاك الحرمات ونشوء الطبقيَّة في الإسلام وذيوع التمايز بين الناس وما الى ذلك من موبقات لا يمكن حصرها في مقالنا هذا.
ثانيها: ففي ذات السياق أعلاه فإنَّ للحسين حقاً قانونياً في إسناد الخلافة إليه بعد موت معاوية طبقاً لبنود الصلح التي جرى تأكيدها بين الإمام الحسن (ع) ومعاوية بن أبي سفيان بأنْ تعودَ الخلافة الى الحسين بن علي بعد أنْ يموت معاوية وألا يتخذ الأخير أي إجراء لتوريث أحدٍ من بعده، ونكث معاوية للعهد ذاك وتسنم يزيد بن معاوية وتصديه لإمارة المسلمين جعل الحسين (ع) ينتفض بالضد من هذا الإجراء "المنحرف" والوقوف بوجهه، وقد صرح الإمام الحسين بذلك وهو في طريقه الى العراق في منطقة تسمى الثعلبيَّة حين لاقاه رجلٌ يدعى أبو هرة الأزدي حيث سلم الأخير عليه وقال للحسين (ع) يا ابن بنت رسول الله ما الذي أخرجك عن حرم الله وحرم جدك محمد (ص).
فقال الحسين (ع) يا أبا هرة [إنَّ بني أميَّة أخذوا مالي وصبرت وشتموا عرضي فصبرت وطلبوا دمي فهربت، وايم الله يا أبا هرة لتقتلني الفئة الباغية وليلبسهم الله ذلاً شاملاً وسيفاً قاطعاً وليسلطن الله عليهم من يذلهم].
فالحسين أكد على مسألة أخذ حقه (أخذوا مالي فصبرت) وأنَّ له حقاً قانونياً طبقاً لأمر الله أولاً وللمواثيق التي عقدت بين الحسن بن علي ومعاوية بن أبي سفيان من جهة أخرى.
كذلك إنَّ للحسين أصلاً آخر وهو أصلٌ دينيٌّ يحتمُّ عليه الثورة ضد حكم آل أميَّة، ومستند هذا الأصل هو الوقوف بوجه الحاكم الجائر الذي أمعن ظلماً وقتلاً وتعسفاً للمسلمين وغيرهم داخل الجغرافيا الإسلاميَّة، وقد أدلى الإمام الحسين بتصريح وقد جاء ذلك في كتبٍ وجهها الى بعض واجهات وأشراف الكوفة حيث قال (من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ثم لم يغير بقول ولا فعل، كان حقيقاً على الله أنْ يدخله مدخله).
وأيضاً لاحظ الإمام الحسين وجود تغييرٍ متعمدٍ للمفاهيم الإسلاميَّة وحرفها عن معانيها ودلالاتها واستشراء الاتجاهات الفكريَّة المنحرفة المدعومة من النظام مثل "المرجئة والجبريَّة" وغيرهم ما حدا به للإسراع بالوقوف إزاء ذلك المشروع الذي تتسع مساحة تمدده يوماً بعد يومٍ ما يسهم في تشويه الأفكار وقلب الصورة الإسلاميَّة والقرآنيَّة وحرف الكلام عن مواضعه فكان ذلك إيذاناً بالتصدي والثورة على النظام الذي يفتعل مثل تلك الأفاعيل، وكانت كلمات الإمام الحسين "ع" أثناء إعلانه الخروج الى كربلاء فيها إشارة واضحة الى تلك المسألة (ألا ترون أنَّ الحق لا يُعمل به وأنَّ الباطل لا يتناهى عنه).
كذلك كان قيام الإمام الحسين أداءً لفرضي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فبعد كل الذي حصل وجرى بين ظهراني المجتمع الإسلامي من تعسفٍ وانحرافاتٍ وفسادٍ وتنكيلٍ بالخصوم وعدم الارتداع أمام الموبقات والممنوعات كان لزاماً على الحسين كمبلّغٍ للرسالة بعد النبي بوصفه "إماماً مفترض الطاعة" وبوصفه مؤدياً بتبليغ الاحكام كمكلفٍ أنْ يأمر بالمعروف ويضع حداً أو يساعد في كف الانحراف وأنْ ينهى عن المنكر بالصورة التي يتمكن منهم وبالشكل الذي يتناسب مع حجم الانحراف، ولذا هو قدم دماءه الزكيَّة قرباناً في مشهدٍ يدلل لنا على فداحة الانحراف وكبر حجم الفساد الذي دفع شخصاً مثل الحسين للتصدي وإهراق دمه الطاهر ليكون حائلاً دون هتك بيضة الإسلام.
إنَّ تلك الأصول والبدايات التاريخيَّة هي التي شكلت "الفلسفة العامة لقيام ثورة الإمام الحسين "ع"، وكانت لها الأثر البليغ في بلورة تلك الرؤية "القيام بالثورة" وإرادة الإطاحة بحكم يزيد أو خلخلة هياكل حكمه، أو فتح نافذة ومساحات للثورات من بعده، فدم الإمام الحسين ليس كأي دمٍ آخر "فهو حينما سقط على الأرض" ألهب النفوس وألهم الرجال للقيام وأخذ الثأر، وهذا ما حصل فعلاً فمن خلال ملاحظات سريعة للثورات التي توالت بعد مقتل الحسين يفهم ماذا قصد الإمام بثورته تلك، فثورة أهل المدينة وثورة التوابين وثورة المختار الثقفي وثورة أهل الموصل وأبناء المناطق التي مرَّ بها الركب الحسيني شاهدٌ على أنَّ دم الحسين ألهب النفوس والأرواح حتى وصل الأمر لعدم استقرارها البتة بعد استشهاد الحسين "ع" فقد فقدت كل أوجه شرعيتها ومصادر قوتها بعد تلك الفجيعة على تراب كربلاء وأسقط تالياً تلك الدولة بفضل تلك الدماء الطاهرة.
يطلقُ عادة على المقدمات التي تسبق حدوث الشيء وتحقيق الشيء "سواء كان حدثاً أو فكرة وغيرهما" بالإرهاصات، ويشير المفهوم الى البدايات التي قام فيها الحدث، وكذلك يعني الأصول التي قام وارتكز عليها، وعليه سيكون كلامنا عن إرهاصات الثورة الحسينيَّة في مستويين مهمين هما..
الأول: البدايات التي مهدت للثورة الحسينيَّة.
الثاني: الأصول التي قامت عليها تلك الثورة.
وللحديث عن البدايات التاريخيَّة لا بُدَّ علينا أولاً استحضار "الأيام الأولى لوفاة الرسول الأكرم "ص" وما تلاها من أحداث"، طبقاً للقاعدة الفلسفيَّة التي تقول [لا شيء من لا شيء]، فالأحداث لا تنقطع عن تاريخها الذي يشكل نواتها الأولى في تظهيرها ونموها وتطورها، فبعيد وفاة النبي الأكرم محمد "ص" واعتلاء أبي بكر سلطة الخلافة الراشدة "كأول الخلفاء" بدت ملامح إبعاد الهاشميين عن سدة السلطة "فلم تنط بهم أيٌ من الولايات والمناصب الإداريَّة ولا قيادة الجند" عدا المشورات التي كان الإمام علي "ع" يشير فيها على السلطة آنذاك في ما يتعلق بالقضايا العامَّة التي تتعلق بالإسلام كدينٍ ومجتمعٍ، فتدَّخُله كان استشارياً غير ملزمٍ، وأيضاً كان بمبرر حفظ ومداراة الدعوة الإسلاميَّة حتى لا تنحرف أكثر ممَّا حصل فيها، وهذا الأمر معناه تقويض نفوذ الهاشميين وفتح متنفسٍ لخصومهم التقليديين "بني أميَّة" للبروز على مسرح الأحداث.
ومع الخليفة الثاني والثالث، اختلف الأمر من جهة بني أميَّة فقد تقلدوا مناصب كثيرة وتناوبوا على الولايات، فكانت ولايتا الشام والعراق من نصيبهم بشكلٍ مطلقٍ، وبذلك أحكموا بفضل دهائهم وبفضل أموال المسلمين التي استثمروها لتوكيد نفوذهم من زيادة قوتهم وجمع الموالين والأنصار حولهم، وأيضاً لتغيير وتحريف ما يمكن من المفاهيم التي هي تالياً ستصبُّ في مصلحتهم، وكان معاوية الذي رأس الشام بعد موت أخيه يزيد بن أبي سفيان أكثرهم دهاءً فقد عمل منذ بدايات تسلمه ولاية الشام على قطع الصلة العقائديَّة والدينيَّة مع مركز الخلافة.
ناهيك عن المنهج الذي اتبعه بنو أميَّة في التعتيم الكامل عن فضائل ومزايا أهل البيت "ع"، بل العكس ما جرى هو استئجار عمال "وعاض سلاطين" من محدثين وخطباء يسبون الإمام علي علناً على المنابر واستمرَّ ذلك الى حين تملك عمر بن عبد العزيز ونهى عن تلك السنة، وقد روي أنَّ من أولئك المستأجرين عمرو بن العاص وأبو هريرة وسمرة بن جندب والمغيرة بن شعبة وعروة بن الزبير وغيرهم، وكانت مهمَّة هؤلاء وأمثالهم اختلاق أخبارٍ تذمُّ الإمام علي (ع) وتضفي طابعاً من القدسيَّة على معاوية، وأحاديث تمنع الأمَّة من التذمر من الحاكم الظالم وتحضّ على عدم الخروج عليه، وكذلك تخدير الأمة بافيون "الأفكار الجبريَّة التي ترسخ فكرة أنَّ الناس مجبرون على هذا الواقع وليس لهم الخروج عليه لأنَّ الله قد اختار لهم ذلك والإنسان غير مخيرٍ إزاء ذلك".
إنَّ مرور نحو عشرين عاماً بالسب وتحريف الحقائق والتدليس ونشر الأفكار المضللة، له تأثير كبير في تجهيل أجيالٍ من المسلمين، حتى أنَّه في قبال ذلك قام الإمام الحسين "ع" قبيل وفاة معاوية بعامٍ تقريباً بأنْ عقد مؤتمراً في "منى" جمع فيه بني هاشم رجالاً ونساءً ومواليهم حتى قيل إنَّ عددهم سبعمئة رجلٍ فيهم من الصحابة وعامتهم مئتا شخصيَّة ليحدثهم بفضائل أهل البيت ويفسر لهم من القرآن الكريم ويذكرهم بأحاديث رسول الله، ويعدُّ مثل هكذا مؤتمرات واجتماعات ضداً نوعياً لما قام ويقوم به معاوية من حملاتٍ لتشويه صورة أهل البيت "ع" في أعين عامَّة المجتمع الإسلامي، وأيضاً تعدُّ هكذا ملتقيات حلقة من حلقات التصعيد ضد سلطان معاوية، وكسراً لحواجز التضييق والحصار الذي اصطنعه عليهم لمدى عشرين عاماً.
وعودة على إجراءات معاوية لطمس تراث أهل البيت (ع)، فقد أجرى معاوية سلسلة من الإجراءات الأمنيَّة المشددة وعمليات القتل والإبادة لكل اتباع الإمام علي "ع" المهمين ولعلَّ رأسهم هو حجر بن عدي، وأيضاً عمل معاوية على تحويل النظام من الخلافة الى الملكيَّة فقد عمل كملك في إقليم الشام حتى أنه يروى أنَّه كان يردد "أنا أول الملوك"، وما الخبر الذي ينقل استقباله بموكبٍ كبيرٍ احتفاءً بقدوم الخليفة الثاني على الشام إلا دليلٌ واضحٌ على ذلك، فقد تعجب عمر بن الخطاب من تلك الأبَّهة وذلك البذخ والاستعراض الكبير وسأله عن ذلك فأجاب معاوية بدهاءٍ كبيرٍ بأنَّه في أرضٍ يكثر فيها جواسيس الأعداء ولا بُدَّ أنْ يظهر أمامهم بأعلى حلة وأبهى صورة يكون فيها عز الإسلام، ثم أردف يقول للخليفة الثاني "فإنْ أنتَ نهيتني أو أمرتني فأنا عند طوعك!".
فردَّ عليه الخليفة بأنه لا يأمره ولا ينهاه.
وبذلك ترك الباب له مفتوحاً لفعل ما يشتهيه، فإنَّ سكوت الخليفة رضا بالذي شهده، من هنا كانت أولى حلقات قلب الخلافة الى ملكيَّة، تبعها الصلح الذي أجراه مع الإمام الحسن واختطاف الخلافة منه بإغراء قادة الجند وتشتيت جيش الإمام أحكم قبضة معاوية على البلاد الإسلاميَّة برمتها.
ناهيك عن التشقق والتشظي الحاصل في المجتمع الإسلامي الذي أثر سلباً في الواقع الذي يعيش المسلمون بكنفه وأيضاً ألقى بظلاله السيئة على مفاهيم الإسلام، فهناك في الحجاز الزبيريون الذين اتخذوا لهم دويلة ويطمحون أيضاً بتملك البلاد الإسلاميَّة؛ الأمر الذي أضعف جبهة العلويين "الحسن والحسين" فإنه لمجرد عدم إسنادهم خلافة الحسن وعدم وقوفهم مع الحسين يعدُّ تخاذلاً ومداً لنفوذ الخصم وهو معاوية بن أبي سفيان، وأيضاً هناك الخوارج الذين شقوا الصف الإسلامي، الأمر الذي عزز نفوذ معاوية واشتداد قوته.
أما المستوى الآخر، فهو الأصول التي قامت عليها الثورة الحسينيَّة وشكلت إطارها الفلسفي "الرؤيوي النظري والشرعي العملي" فإنَّ أهم تلك الهياكل التي تنبري أمامنا هو إرادة الإصلاح التي قصدها الإمام الحسين "ع" في ذلك النهوض وذلك المشروع الذي تحمل هو الحسين عليه السلام أعباء القيام به.
والإصلاح يكون وفق اشتراطات أولها: وجود الانحرافات في الواقع وهي الاعوجاجات التي يمكن أنْ نحدَّ لها حداً تاريخياً منذ اغتصاب الخلافة "بحسب المنظور الإمامي للموضوع" فإنَّه كان الانحراف الأول في مسار الشريعة الإسلاميَّة ويتطلب ذلك تدخلاً من شخصيَّة ذات نفوذ ولها الأسبقيَّة والأحقيَّة في هذا الأمر يكون هو قائداً للحراك الإصلاحي لتعديل ذلك المسار أو خلخلته بإحداث اهتزازاتٍ في بِنْية النظام لمنعه من التغول أكثر والتمدد بشكلٍ أوسع، ناهيك عن الانحرافات الأخرى التي جاءت بعرض ذلك الانحراف من الفساد والابتزاز والقتل وانتهاك الحرمات ونشوء الطبقيَّة في الإسلام وذيوع التمايز بين الناس وما الى ذلك من موبقات لا يمكن حصرها في مقالنا هذا.
ثانيها: ففي ذات السياق أعلاه فإنَّ للحسين حقاً قانونياً في إسناد الخلافة إليه بعد موت معاوية طبقاً لبنود الصلح التي جرى تأكيدها بين الإمام الحسن (ع) ومعاوية بن أبي سفيان بأنْ تعودَ الخلافة الى الحسين بن علي بعد أنْ يموت معاوية وألا يتخذ الأخير أي إجراء لتوريث أحدٍ من بعده، ونكث معاوية للعهد ذاك وتسنم يزيد بن معاوية وتصديه لإمارة المسلمين جعل الحسين (ع) ينتفض بالضد من هذا الإجراء "المنحرف" والوقوف بوجهه، وقد صرح الإمام الحسين بذلك وهو في طريقه الى العراق في منطقة تسمى الثعلبيَّة حين لاقاه رجلٌ يدعى أبو هرة الأزدي حيث سلم الأخير عليه وقال للحسين (ع) يا ابن بنت رسول الله ما الذي أخرجك عن حرم الله وحرم جدك محمد (ص).
فقال الحسين (ع) يا أبا هرة [إنَّ بني أميَّة أخذوا مالي وصبرت وشتموا عرضي فصبرت وطلبوا دمي فهربت، وايم الله يا أبا هرة لتقتلني الفئة الباغية وليلبسهم الله ذلاً شاملاً وسيفاً قاطعاً وليسلطن الله عليهم من يذلهم].
فالحسين أكد على مسألة أخذ حقه (أخذوا مالي فصبرت) وأنَّ له حقاً قانونياً طبقاً لأمر الله أولاً وللمواثيق التي عقدت بين الحسن بن علي ومعاوية بن أبي سفيان من جهة أخرى.
كذلك إنَّ للحسين أصلاً آخر وهو أصلٌ دينيٌّ يحتمُّ عليه الثورة ضد حكم آل أميَّة، ومستند هذا الأصل هو الوقوف بوجه الحاكم الجائر الذي أمعن ظلماً وقتلاً وتعسفاً للمسلمين وغيرهم داخل الجغرافيا الإسلاميَّة، وقد أدلى الإمام الحسين بتصريح وقد جاء ذلك في كتبٍ وجهها الى بعض واجهات وأشراف الكوفة حيث قال (من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ثم لم يغير بقول ولا فعل، كان حقيقاً على الله أنْ يدخله مدخله).
وأيضاً لاحظ الإمام الحسين وجود تغييرٍ متعمدٍ للمفاهيم الإسلاميَّة وحرفها عن معانيها ودلالاتها واستشراء الاتجاهات الفكريَّة المنحرفة المدعومة من النظام مثل "المرجئة والجبريَّة" وغيرهم ما حدا به للإسراع بالوقوف إزاء ذلك المشروع الذي تتسع مساحة تمدده يوماً بعد يومٍ ما يسهم في تشويه الأفكار وقلب الصورة الإسلاميَّة والقرآنيَّة وحرف الكلام عن مواضعه فكان ذلك إيذاناً بالتصدي والثورة على النظام الذي يفتعل مثل تلك الأفاعيل، وكانت كلمات الإمام الحسين "ع" أثناء إعلانه الخروج الى كربلاء فيها إشارة واضحة الى تلك المسألة (ألا ترون أنَّ الحق لا يُعمل به وأنَّ الباطل لا يتناهى عنه).
كذلك كان قيام الإمام الحسين أداءً لفرضي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فبعد كل الذي حصل وجرى بين ظهراني المجتمع الإسلامي من تعسفٍ وانحرافاتٍ وفسادٍ وتنكيلٍ بالخصوم وعدم الارتداع أمام الموبقات والممنوعات كان لزاماً على الحسين كمبلّغٍ للرسالة بعد النبي بوصفه "إماماً مفترض الطاعة" وبوصفه مؤدياً بتبليغ الاحكام كمكلفٍ أنْ يأمر بالمعروف ويضع حداً أو يساعد في كف الانحراف وأنْ ينهى عن المنكر بالصورة التي يتمكن منهم وبالشكل الذي يتناسب مع حجم الانحراف، ولذا هو قدم دماءه الزكيَّة قرباناً في مشهدٍ يدلل لنا على فداحة الانحراف وكبر حجم الفساد الذي دفع شخصاً مثل الحسين للتصدي وإهراق دمه الطاهر ليكون حائلاً دون هتك بيضة الإسلام.
إنَّ تلك الأصول والبدايات التاريخيَّة هي التي شكلت "الفلسفة العامة لقيام ثورة الإمام الحسين "ع"، وكانت لها الأثر البليغ في بلورة تلك الرؤية "القيام بالثورة" وإرادة الإطاحة بحكم يزيد أو خلخلة هياكل حكمه، أو فتح نافذة ومساحات للثورات من بعده، فدم الإمام الحسين ليس كأي دمٍ آخر "فهو حينما سقط على الأرض" ألهب النفوس وألهم الرجال للقيام وأخذ الثأر، وهذا ما حصل فعلاً فمن خلال ملاحظات سريعة للثورات التي توالت بعد مقتل الحسين يفهم ماذا قصد الإمام بثورته تلك، فثورة أهل المدينة وثورة التوابين وثورة المختار الثقفي وثورة أهل الموصل وأبناء المناطق التي مرَّ بها الركب الحسيني شاهدٌ على أنَّ دم الحسين ألهب النفوس والأرواح حتى وصل الأمر لعدم استقرارها البتة بعد استشهاد الحسين "ع" فقد فقدت كل أوجه شرعيتها ومصادر قوتها بعد تلك الفجيعة على تراب كربلاء وأسقط تالياً تلك الدولة بفضل تلك الدماء الطاهرة.
يطلقُ عادة على المقدمات التي تسبق حدوث الشيء وتحقيق الشيء "سواء كان حدثاً أو فكرة وغيرهما" بالإرهاصات، ويشير المفهوم الى البدايات التي قام فيها الحدث، وكذلك يعني الأصول التي قام وارتكز عليها، وعليه سيكون كلامنا عن إرهاصات الثورة الحسينيَّة في مستويين مهمين هما..
الأول: البدايات التي مهدت للثورة الحسينيَّة.
الثاني: الأصول التي قامت عليها تلك الثورة.
وللحديث عن البدايات التاريخيَّة لا بُدَّ علينا أولاً استحضار "الأيام الأولى لوفاة الرسول الأكرم "ص" وما تلاها من أحداث"، طبقاً للقاعدة الفلسفيَّة التي تقول [لا شيء من لا شيء]، فالأحداث لا تنقطع عن تاريخها الذي يشكل نواتها الأولى في تظهيرها ونموها وتطورها، فبعيد وفاة النبي الأكرم محمد "ص" واعتلاء أبي بكر سلطة الخلافة الراشدة "كأول الخلفاء" بدت ملامح إبعاد الهاشميين عن سدة السلطة "فلم تنط بهم أيٌ من الولايات والمناصب الإداريَّة ولا قيادة الجند" عدا المشورات التي كان الإمام علي "ع" يشير فيها على السلطة آنذاك في ما يتعلق بالقضايا العامَّة التي تتعلق بالإسلام كدينٍ ومجتمعٍ، فتدَّخُله كان استشارياً غير ملزمٍ، وأيضاً كان بمبرر حفظ ومداراة الدعوة الإسلاميَّة حتى لا تنحرف أكثر ممَّا حصل فيها، وهذا الأمر معناه تقويض نفوذ الهاشميين وفتح متنفسٍ لخصومهم التقليديين "بني أميَّة" للبروز على مسرح الأحداث.
ومع الخليفة الثاني والثالث، اختلف الأمر من جهة بني أميَّة فقد تقلدوا مناصب كثيرة وتناوبوا على الولايات، فكانت ولايتا الشام والعراق من نصيبهم بشكلٍ مطلقٍ، وبذلك أحكموا بفضل دهائهم وبفضل أموال المسلمين التي استثمروها لتوكيد نفوذهم من زيادة قوتهم وجمع الموالين والأنصار حولهم، وأيضاً لتغيير وتحريف ما يمكن من المفاهيم التي هي تالياً ستصبُّ في مصلحتهم، وكان معاوية الذي رأس الشام بعد موت أخيه يزيد بن أبي سفيان أكثرهم دهاءً فقد عمل منذ بدايات تسلمه ولاية الشام على قطع الصلة العقائديَّة والدينيَّة مع مركز الخلافة.
ناهيك عن المنهج الذي اتبعه بنو أميَّة في التعتيم الكامل عن فضائل ومزايا أهل البيت "ع"، بل العكس ما جرى هو استئجار عمال "وعاض سلاطين" من محدثين وخطباء يسبون الإمام علي علناً على المنابر واستمرَّ ذلك الى حين تملك عمر بن عبد العزيز ونهى عن تلك السنة، وقد روي أنَّ من أولئك المستأجرين عمرو بن العاص وأبو هريرة وسمرة بن جندب والمغيرة بن شعبة وعروة بن الزبير وغيرهم، وكانت مهمَّة هؤلاء وأمثالهم اختلاق أخبارٍ تذمُّ الإمام علي (ع) وتضفي طابعاً من القدسيَّة على معاوية، وأحاديث تمنع الأمَّة من التذمر من الحاكم الظالم وتحضّ على عدم الخروج عليه، وكذلك تخدير الأمة بافيون "الأفكار الجبريَّة التي ترسخ فكرة أنَّ الناس مجبرون على هذا الواقع وليس لهم الخروج عليه لأنَّ الله قد اختار لهم ذلك والإنسان غير مخيرٍ إزاء ذلك".
إنَّ مرور نحو عشرين عاماً بالسب وتحريف الحقائق والتدليس ونشر الأفكار المضللة، له تأثير كبير في تجهيل أجيالٍ من المسلمين، حتى أنَّه في قبال ذلك قام الإمام الحسين "ع" قبيل وفاة معاوية بعامٍ تقريباً بأنْ عقد مؤتمراً في "منى" جمع فيه بني هاشم رجالاً ونساءً ومواليهم حتى قيل إنَّ عددهم سبعمئة رجلٍ فيهم من الصحابة وعامتهم مئتا شخصيَّة ليحدثهم بفضائل أهل البيت ويفسر لهم من القرآن الكريم ويذكرهم بأحاديث رسول الله، ويعدُّ مثل هكذا مؤتمرات واجتماعات ضداً نوعياً لما قام ويقوم به معاوية من حملاتٍ لتشويه صورة أهل البيت "ع" في أعين عامَّة المجتمع الإسلامي، وأيضاً تعدُّ هكذا ملتقيات حلقة من حلقات التصعيد ضد سلطان معاوية، وكسراً لحواجز التضييق والحصار الذي اصطنعه عليهم لمدى عشرين عاماً.
وعودة على إجراءات معاوية لطمس تراث أهل البيت (ع)، فقد أجرى معاوية سلسلة من الإجراءات الأمنيَّة المشددة وعمليات القتل والإبادة لكل اتباع الإمام علي "ع" المهمين ولعلَّ رأسهم هو حجر بن عدي، وأيضاً عمل معاوية على تحويل النظام من الخلافة الى الملكيَّة فقد عمل كملك في إقليم الشام حتى أنه يروى أنَّه كان يردد "أنا أول الملوك"، وما الخبر الذي ينقل استقباله بموكبٍ كبيرٍ احتفاءً بقدوم الخليفة الثاني على الشام إلا دليلٌ واضحٌ على ذلك، فقد تعجب عمر بن الخطاب من تلك الأبَّهة وذلك البذخ والاستعراض الكبير وسأله عن ذلك فأجاب معاوية بدهاءٍ كبيرٍ بأنَّه في أرضٍ يكثر فيها جواسيس الأعداء ولا بُدَّ أنْ يظهر أمامهم بأعلى حلة وأبهى صورة يكون فيها عز الإسلام، ثم أردف يقول للخليفة الثاني "فإنْ أنتَ نهيتني أو أمرتني فأنا عند طوعك!".
فردَّ عليه الخليفة بأنه لا يأمره ولا ينهاه.
وبذلك ترك الباب له مفتوحاً لفعل ما يشتهيه، فإنَّ سكوت الخليفة رضا بالذي شهده، من هنا كانت أولى حلقات قلب الخلافة الى ملكيَّة، تبعها الصلح الذي أجراه مع الإمام الحسن واختطاف الخلافة منه بإغراء قادة الجند وتشتيت جيش الإمام أحكم قبضة معاوية على البلاد الإسلاميَّة برمتها.
ناهيك عن التشقق والتشظي الحاصل في المجتمع الإسلامي الذي أثر سلباً في الواقع الذي يعيش المسلمون بكنفه وأيضاً ألقى بظلاله السيئة على مفاهيم الإسلام، فهناك في الحجاز الزبيريون الذين اتخذوا لهم دويلة ويطمحون أيضاً بتملك البلاد الإسلاميَّة؛ الأمر الذي أضعف جبهة العلويين "الحسن والحسين" فإنه لمجرد عدم إسنادهم خلافة الحسن وعدم وقوفهم مع الحسين يعدُّ تخاذلاً ومداً لنفوذ الخصم وهو معاوية بن أبي سفيان، وأيضاً هناك الخوارج الذين شقوا الصف الإسلامي، الأمر الذي عزز نفوذ معاوية واشتداد قوته.
أما المستوى الآخر، فهو الأصول التي قامت عليها الثورة الحسينيَّة وشكلت إطارها الفلسفي "الرؤيوي النظري والشرعي العملي" فإنَّ أهم تلك الهياكل التي تنبري أمامنا هو إرادة الإصلاح التي قصدها الإمام الحسين "ع" في ذلك النهوض وذلك المشروع الذي تحمل هو الحسين عليه السلام أعباء القيام به.
والإصلاح يكون وفق اشتراطات أولها: وجود الانحرافات في الواقع وهي الاعوجاجات التي يمكن أنْ نحدَّ لها حداً تاريخياً منذ اغتصاب الخلافة "بحسب المنظور الإمامي للموضوع" فإنَّه كان الانحراف الأول في مسار الشريعة الإسلاميَّة ويتطلب ذلك تدخلاً من شخصيَّة ذات نفوذ ولها الأسبقيَّة والأحقيَّة في هذا الأمر يكون هو قائداً للحراك الإصلاحي لتعديل ذلك المسار أو خلخلته بإحداث اهتزازاتٍ في بِنْية النظام لمنعه من التغول أكثر والتمدد بشكلٍ أوسع، ناهيك عن الانحرافات الأخرى التي جاءت بعرض ذلك الانحراف من الفساد والابتزاز والقتل وانتهاك الحرمات ونشوء الطبقيَّة في الإسلام وذيوع التمايز بين الناس وما الى ذلك من موبقات لا يمكن حصرها في مقالنا هذا.
ثانيها: ففي ذات السياق أعلاه فإنَّ للحسين حقاً قانونياً في إسناد الخلافة إليه بعد موت معاوية طبقاً لبنود الصلح التي جرى تأكيدها بين الإمام الحسن (ع) ومعاوية بن أبي سفيان بأنْ تعودَ الخلافة الى الحسين بن علي بعد أنْ يموت معاوية وألا يتخذ الأخير أي إجراء لتوريث أحدٍ من بعده، ونكث معاوية للعهد ذاك وتسنم يزيد بن معاوية وتصديه لإمارة المسلمين جعل الحسين (ع) ينتفض بالضد من هذا الإجراء "المنحرف" والوقوف بوجهه، وقد صرح الإمام الحسين بذلك وهو في طريقه الى العراق في منطقة تسمى الثعلبيَّة حين لاقاه رجلٌ يدعى أبو هرة الأزدي حيث سلم الأخير عليه وقال للحسين (ع) يا ابن بنت رسول الله ما الذي أخرجك عن حرم الله وحرم جدك محمد (ص).
فقال الحسين (ع) يا أبا هرة [إنَّ بني أميَّة أخذوا مالي وصبرت وشتموا عرضي فصبرت وطلبوا دمي فهربت، وايم الله يا أبا هرة لتقتلني الفئة الباغية وليلبسهم الله ذلاً شاملاً وسيفاً قاطعاً وليسلطن الله عليهم من يذلهم].
فالحسين أكد على مسألة أخذ حقه (أخذوا مالي فصبرت) وأنَّ له حقاً قانونياً طبقاً لأمر الله أولاً وللمواثيق التي عقدت بين الحسن بن علي ومعاوية بن أبي سفيان من جهة أخرى.
كذلك إنَّ للحسين أصلاً آخر وهو أصلٌ دينيٌّ يحتمُّ عليه الثورة ضد حكم آل أميَّة، ومستند هذا الأصل هو الوقوف بوجه الحاكم الجائر الذي أمعن ظلماً وقتلاً وتعسفاً للمسلمين وغيرهم داخل الجغرافيا الإسلاميَّة، وقد أدلى الإمام الحسين بتصريح وقد جاء ذلك في كتبٍ وجهها الى بعض واجهات وأشراف الكوفة حيث قال (من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ثم لم يغير بقول ولا فعل، كان حقيقاً على الله أنْ يدخله مدخله).
وأيضاً لاحظ الإمام الحسين وجود تغييرٍ متعمدٍ للمفاهيم الإسلاميَّة وحرفها عن معانيها ودلالاتها واستشراء الاتجاهات الفكريَّة المنحرفة المدعومة من النظام مثل "المرجئة والجبريَّة" وغيرهم ما حدا به للإسراع بالوقوف إزاء ذلك المشروع الذي تتسع مساحة تمدده يوماً بعد يومٍ ما يسهم في تشويه الأفكار وقلب الصورة الإسلاميَّة والقرآنيَّة وحرف الكلام عن مواضعه فكان ذلك إيذاناً بالتصدي والثورة على النظام الذي يفتعل مثل تلك الأفاعيل، وكانت كلمات الإمام الحسين "ع" أثناء إعلانه الخروج الى كربلاء فيها إشارة واضحة الى تلك المسألة (ألا ترون أنَّ الحق لا يُعمل به وأنَّ الباطل لا يتناهى عنه).
كذلك كان قيام الإمام الحسين أداءً لفرضي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فبعد كل الذي حصل وجرى بين ظهراني المجتمع الإسلامي من تعسفٍ وانحرافاتٍ وفسادٍ وتنكيلٍ بالخصوم وعدم الارتداع أمام الموبقات والممنوعات كان لزاماً على الحسين كمبلّغٍ للرسالة بعد النبي بوصفه "إماماً مفترض الطاعة" وبوصفه مؤدياً بتبليغ الاحكام كمكلفٍ أنْ يأمر بالمعروف ويضع حداً أو يساعد في كف الانحراف وأنْ ينهى عن المنكر بالصورة التي يتمكن منهم وبالشكل الذي يتناسب مع حجم الانحراف، ولذا هو قدم دماءه الزكيَّة قرباناً في مشهدٍ يدلل لنا على فداحة الانحراف وكبر حجم الفساد الذي دفع شخصاً مثل الحسين للتصدي وإهراق دمه الطاهر ليكون حائلاً دون هتك بيضة الإسلام.
إنَّ تلك الأصول والبدايات التاريخيَّة هي التي شكلت "الفلسفة العامة لقيام ثورة الإمام الحسين "ع"، وكانت لها الأثر البليغ في بلورة تلك الرؤية "القيام بالثورة" وإرادة الإطاحة بحكم يزيد أو خلخلة هياكل حكمه، أو فتح نافذة ومساحات للثورات من بعده، فدم الإمام الحسين ليس كأي دمٍ آخر "فهو حينما سقط على الأرض" ألهب النفوس وألهم الرجال للقيام وأخذ الثأر، وهذا ما حصل فعلاً فمن خلال ملاحظات سريعة للثورات التي توالت بعد مقتل الحسين يفهم ماذا قصد الإمام بثورته تلك، فثورة أهل المدينة وثورة التوابين وثورة المختار الثقفي وثورة أهل الموصل وأبناء المناطق التي مرَّ بها الركب الحسيني شاهدٌ على أنَّ دم الحسين ألهب النفوس والأرواح حتى وصل الأمر لعدم استقرارها البتة بعد استشهاد الحسين "ع" فقد فقدت كل أوجه شرعيتها ومصادر قوتها بعد تلك الفجيعة على تراب كربلاء وأسقط تالياً تلك الدولة بفضل تلك الدماء الطاهرة.