حسن الكعبي
تحاول بعض القراءات التي درست التاريخ الإسلامي وعملت على مقاربة مفاهيمه، أن تتحايل على بعض وقائعه الكبرى، وتحرفها عن مساراتها المشرقة, بإيجاد تأويلات تشكّك بالمفاهيم الإصلاحية التي تلتحق بها، ومن تلك الوقائع الكبرى (واقعة الطف)، التي تمثّل هذا النموذج الإصلاحي الكبير في المسار التاريخي لبناء دولة ترتكز إلى مفاهيم العدالة والحرية الإنسانية، أو ما اصطلح عليه في الأدبيات السياسية الحديثة بـ (الديمقراطية البيضاء)، لكن العمى الثقافي الذي يعاني منه الفكر العربي, لاسيما في الطبعات العلمانية المتطرفة، سيمنع من توجيه المجسات النقدية للتعامل مع واقعة الطف كدرس في تمثيل الديمقراطية العالمية، وأن تتعامل مع الإمام الحسين (ع) كـ (أنموذج) في صناعة الديمقراطية البيضاء التي لم تتلون ولم تنحرف عن أهدافها السامية في الإصلاح الديني والإنساني.
إن حركة الإصلاح في ثورة الإمام الحسين تتجلى ضمن المقولة الشهيرة: (لم أخرج أشرا ولا بطرا وإنما خرجت طلبا للإصلاح)، فهذه المقولة في تمثيلات الواقعة كانت البيان التعريفي في مشروع الواقعة الإصلاحي، وهي المقدمة الأساسية في صياغة مشروعها الأخلاقي والإنساني لخلق ديمقراطيتها البيضاء، بالنسبة لمن يقف على تفكيك وتشريح المقولة وانتزاع دلالاتها التي ستؤشر لهذا المنطق الإصلاحي، لبناء منظومة متكاملة في صياغة المفاهيم الأساسية في بناء الدولة العادلة .
إن مسارات الواقعة في سياق تمثيلاتها هذه، تدفع بالمقاربات النقدية والنظريات الفكرية إلى توجيه مجساتها نحوها بوصفها نموذجا لمشاريع التغيير السلمي أو الثورات السلمية الإصلاحية، لخلق ديمقراطية نظيفة خالية من التغول كطابع توسعي، أو التلون ضمن المساعي السياسية لتكييف المفهوم بحسب استراتيجيتها في التسويق القسري للمفهوم من بيئة إلى أخرى، على النحو الذي بدأنا نشهد تغاير تطبيقاته من دولة إلى أخرى إلى حدود التضاد والتناقض.
تأسيسا على ذلك، فإن واقعة الطف، تتسق في نشر مفاهيمها الإنسانية مع التوجهات العالمية الإنسانية التي تسعى إلى نشر المفاهيم الإنسانية التي تحتفي بالآخر، وتتجنب الفردانية والانغلاق بدعوى الخصوصية بمعناها الانكفائي، فلم يعد انتفاء خصوصيات المجتمعات بحاجة إلى جهد فكري لإثباته، مع الجهود الثقافية الما بعد حداثية التي لغمت التاريخ بأسئلة كبرى، وتمخضت جهودها عن أن كل فكر أصيل وعالمي هو بالضرورة فكر إنساني مشاع، وأن التشبث بالخصوصية يغاير بالضرورة التوجه الإنساني ويتجه نحو التوحش والفردانية، وهذا شأن الهويات المحلية التي تشتق لها رقعة معزولة في جغرافيا الكون الكبير، وهي هويات خاضعة للارتياب النقدي ومساءلاته الكاشفة عن الفبركة والاختراع والتلفيق ضمن هذه الهويات، مثال ذلك كيان داعش الذي يحاول أن يخترع له خصوصية إسلامية، في حين أن الإسلام هو رسالة عالمية تتجاوز الخصوصيات، وتلك المفارقة كشف عنها الناقد الكبير- عبد الله الغذامي- في حكاية الحداثة داخل السعودية .
إن الهويات المحلية، مهما بلغت من الذكاء في اختراع تاريخ لها، ستخفق في صناعة مستقبل لها، لأن الخصوصية تعني الانغلاق، وتعني عدم التفاعل والانفعال، وعدم التأثر والتأثير، وهذا بحد ذاته يدفع بالفكر إلى الانحلال والتمحل، وذلك ما يجعل من كيان داعش كيانا توحشيا ومغتربا في سلوكياته عن طابع التعاملات الإنسانية، وكما أن للهويات المحلية في هذا المسار مخاطرها وإشكالياتها، فإن للهويات العابرة للخصوصيات مخاطرها وإشكالياتها أيضا، في سياق ما أشرنا إليه في توشم وتلون المفاهيم العالمية الكبرى التى تسعى إلى نمذجة وتنميط المفاهيم، والتنميط يغاير الاختلاف والتعددية، وهو بالتالي مسعى نحو الانغلاق والفردانية، كما سادت في فكر الحداثة الغربي, ويبقى النموذج الأمثل في الصيغ والمفاهيم العالمية، هو النموذج التوسطي الذي أشرنا إليه في واقعة الطف ونشرها للمفاهيم الإنسانية، والذي شكلت رؤاه ستراتيجية في مشروع الإصلاح الديني والسياسي والإنساني بشكل عام .
فواقعة الطف في كل معانيها ومواقف الإمام الحسين (ع) فيها، كانت أظهرت جميع الحقوق المنتهكة من معسكر الظلم، وبالتالي فإنها أظهرت مظلوميتها، لأن إظهار الظلم يدخل ضمن التورية التي تظهر معنى وتحفز نقيضة، أي أنها عند إظهار المظلومية فإنها تظهر الطرف الظالم ضمنها، وفي هذا المعنى جرت ديمقراطية الواقعة التي صنعت رموزها العالمية، لكنها مع ذلك بقيت بعيدة عن دروس التناول الثقافي العربي في قراءة عالمية الفكر الإسلامي، في إطار صناعته لمفهوم التوسطية والاعتدال والتسامح الذي صنعته ثورة الإمام الحسين .