قبض ريح

ثقافة 2024/07/16
...

 كاظم جماسي

يهاجمني كل يوم، ما أن يكتمل حلول الظلام وحتى ما قبل طلوع الفجر، اعتدت الأمر، ما أن أسمع تكسر أعواد القصب تحت ثقل خطواته، إثب بعزم من فراشي لألاقيه، عشرات المرات يحاول غرز واحد من قرنيه أو كليهما في بطني أو أحدى خاصرتي، فلا يفلح، أتفاداها برشاقة مصارع تايكوندو محترف، أسطره حيثما تيسر لي، ثم بخفة غزال أقفز ممتطيا ظهره، أظل أدمغ برأسه وأدمغ حتى ينفضني بعيداً عنه، لا أزعم أن لا خسائر من خدوش ورضوض تلحق بجسدي، غير أنني بقيت مصرا وعنيدا أشد من عناد بغل، أطيح نعم، ثم أطيح ولكنني أنهض من جديد..
الأحلام التي تناسلت عما خلفته في العمق من طبقات أرواحنا، زاد عوزنا في الشتاءات الباردة، حكايات أمهاتنا، رسخت في مكان قصي من روحي هيئة الأميرة الفاتنة التي اختطفها الجني المقنع بقناع وجه بشري وديع، وبثياب قارئ بخت جوال، وهي سليلة ترف وغنج الحسب الملكي النبيل، حلم اللقاء بها سكن عقلي وقلبي، ولما نبتت شعرات شاربي ونزل ماء الفحولة في أعضائي، بدأ، هيمنته المطلقة على كياني أجمعه، يا إلهي كم من عبرات أقامت في صدري، وكم من تأوهات ذرفتها رئتاي، وكم من دموع سفحتها عيناي، وكم .. وكم ..مالا يعد من أوجاع توجعت به روحي، تزورني كلما خلوت بنفسي، إن كان نهارا أو كان ليلا، أشرع ذراعي فترتمي في حضني، امسد خصلات شعرها الطويلة، تشرنقني وجها لظهر، تدغدغ أبطي وخاصرتي وماخلف أذني، أهتاج كمحموم، اخاطبها ملتاعا: أميرتي.. رضيع مقمط أنا، حرريني، ضمآن ناشف الريق أنا، أرضعيني، مريض أنا حبا، طببيني.
 ومن دون أن أدري تمضي أصابعي الاحدى عشرة تجول وتصول في كل زاوية ومنحنى في خارطة جسدها السائل اللدونة والباهر الترافة، مولها أشهق.. ياألهي هل لك أن تنشغل بباقي خلقك وتنساني هنا، أتركني.. أتوسل أليك.. لست أريد أيما جاه أو مال أو سعادة، فقط أريد الذوبان تماما كما قطعة ثلج بلهيب نار العشق..
آه كم كتمت لسعات جمر الشوق، كم ذقت من مرارات وخيبات، صابرا مجالدا، حتى أشار ألي ذات ليلة، هاتف من غور عميق أجهله، في لحظة إشراقة صوفية باهرة، أن أمضي إلى الأهوار.. واجتهد أن تصطاد سمكة مشعة بألوان الطيف كلها، كل صدفة بلون، سمكة لا أرشق ولا أبهى من قوامها، ستطلب منك أن تطلقها، فتكافئك بأن تقودك إلى حيث محجر الأميرة، في قصر الغول ذي القرنين، الرابض في أعماق الهور الأكبر.. هناك ستحظى ببغيتك فتستريح.
حملت حقيبة ظهري راحلا إلى هناك، وفيما اقطع مفازات ومحطات، مكابدات تفوق الوصف، كنت أشهد أشباها لي يتكاثرون قدما، من هنا وهناك، سائرون بذات الاتجاه.
حط المقام بنا على" چباشات" رقاع مرتفعة عن سطح الماء قوامها طبقات متراصة من القصب، في مسطح هور فسيح، شكلت فيما بعد مقامات لنا، كل في چباشته، ننهض باكرا نصطاد قوت يومنا، ونعود عصرا إلى مناماتنا، مكدرة لا تسكن أو تهجع نفوسنا، نتقلب ساعات الليل جميعها، حالمين بلقاء أميرتنا المشتهاة.
بتعاقب الليالي تتناهى ألي صرخات وأنات محتضرين، فيما أشهد في النهارات التاليات نقصانا متواترا بعدد الصيادين، وظل الحال مستمرا حتى قدم النهار الذي وجدت نفسي فيه الصياد الأوحد.
من ليلة ذاك النهار بدأ مسلسل حفلي الليلي بالقتال مع الغول.. يهاجمني كل يوم، ما أن يكتمل حلول الظلام وحتى ما قبل طلوع الفجر، أعتدت الأمر، ما أن أسمع تكسر أعواد القصب تحت ثقل خطواته، إثب بعزم من فراشي لألاقيه، عشرات المرات يحاول غرز واحد من قرنيه أو كليهما في بطني أو أحدى خاصرتي، فلا يفلح، أتفاداها برشاقة مصارع تايكواندو محترف، أسطره حيثما تيسر لي، ثم بخفة غزال أقفز ممتطيا ظهره، أظل أدمغ برأسه وأدمغ حتى ينفضني بعيدا عنه، لا أزعم أن لا خسائر من خدوش ورضوض تلحق بجسدي، غير أنني بقيت مصرا وعنيدا أشد من عناد بغل، أطيح نعم، ثم أطيح لأنهض من جديد.
تترادف الليالي وتترادف الخدوش والرضوض، وتصبح جروحا وكسور، فيما يرك متواترا الحيل مني، لا اصطدت سمكة الطيف، ولا ناصر أو معين معي، ولا ثمة رأفة يبديها الله بحالي..
كثرت الطعنات بالمسكين جسدي، فيما العزم بروحي باق كما هو، ولكن مانفع العزم من دون حيل؟ الحيل الذي راح يرك ويرك.. ثم يئن ويئن.. أوطأ فأوطأ.. أخفت فأخفت.. ثم.