زهرة ولقاء

ثقافة 2024/07/16
...

 ضاري الغضبان                  

عطش مُختلف
كنت أداري عطشاً مُختلفاً، لم يكن للفم من علاقة به، حاسة أربكت منطق الحواس، وأغدقت على فكري ارهاصات جديدة، شرعت بلا شعور بالهرع لقدح رائق يمنح ماؤه الزجاج تشظيات مُبهرة، حسبته عسلاً وتلك التعرجات حدود الخلايا، غير أن طعم الماء لم يشفِ عطشي الجديد العابر لذاكرتي القريبة.
داريتُ ارباكي بتصنع سعال، غير أن السعال كان منسقاً كلحن، لكنّه صوت جاء من ذاكرتي البعيدة وهو يحاكي هدهدات أم لطفل وليد، ومن حيث لا أتوقع تناهى لمسعي صوت سيدة عطوف وهي تشركني؛ لأن سعالي هدأ من روع الطفل الباكي الرافض لزجاجة الحليب، وفي لمسة جنون خطفت قارورة الطفل ورضعت من حلمتها الصناعية.
لم تصدم السيدة أو تنتقد تصرفي الطفولي، بل صورتني في تلك الواقعة...
تلك الصورة أصبحت تزين حائط غرفة نومنا أنا وأم الصبي اليتيم مع رواء مُتبادل.

أية زهرة
مُّميزة عن باقي الورود بلون أحمر فاقع، يواكب لون قميص الفتاة؛ بائعة الورد عند مدخل مول التسوّق المزدحم، لمحتها بطرف عيني لحظة هملتْ دمعة دون قصد، لم تكن دمعة حزن أو دمعة ناتجة عن تحسس، دمعة حيرتني وذكرتني بقصيدة تعبر عن السماح بالدمع شرط أن يقف عند حد الجفن!
قادتني خطواتي ــ دون تخطيط ــ لولوج المحل المكتظ بالمتسوقين، خرجتُ من داري بنية طرد الرتابة؛ فوجدت الموقع يغرق في رتابة دائمة عن عرض المُباع وتلقف المشترين! لم يغرِ نظري أي شيء، وبحثتُ عيني ــ التي لم تزل بحدس الدمعة ــ  عن ورود تُباع، وبعد جهد جهيد؛ وجدتها معروضة بيد أنها ورود صناعية غزتها الأتربة، ودون تخطيط رجعت بخطوات عاجلة نحو الخارج.
كانت تقف بنفس الموقع غير أن الوردة باللون الفاقع قد تلقفتها يد فتاة شارية، كدت أن أصرخ بها، لكن البائعة تنبهت لي، واسبلت عينيها بسؤال رمزي، فقت بلوم:
ــ رجعت لأجل الوردة الحمراء التي تشبه هذا القميص.
لم ترد بل نزعت القميص ومنحتني إياه.  
لقاء فارق                    
تبدّد حلم اللقاء؛ لأن الوشاة نصبوا كميناً محكماً حال دون رغبتنا، إلا أن  سعينا له بقي شاخصاً، كسعي طائر الرفراف فوق نهر جارٍ من أجل سمكة، لم يكن بمقدور الهاتف خفض ضغط الشوق ولا التشافي بالآمال التي تزدحم في المخيلة، فقد احترف معادو الحب في كبح جماح كل فكرة لقاء تحت أي عنوان...
غير أن للقدر قول فصل، فقد تذكر المحترم عزرائيل جدها، وأمكنني أن أدخل دارهم معزياً على وقع النحيب! وأسرق نظرة عن قرب ولقاء تحت سماء العويل.    

عطرها والشمس  
أقبلتْ كزوبعة عطر علنية تحاكي؛ بل تتحدى ضوع تلك الورود التي ترسم لوحة حياة على جانبي مَّمر الحديقة، كنا ـ دون وعي ــ نفغر الأفواه على الرغم من الكياسة المُفترضة، وصلت فأشفقت على عطشنا وشبق عيوننا بنظرة حانية، كللتها بتلك الابتسامة الملائكية.
كنا نبتهل إلى السماء أن تقف؛ كي ترتشف من هبوب نسمات جسدها عطراً، بيد أنها لم تفعل، بل مرت مرور الكرام، وتركت أعيننا توشح حركتها بخشوع واجب، ولم يقطع حبل الصمت إلا الطائر الذي مرَّ محلقاً فوقنا وفوقها، وهلل بتغريدة جعلتها تقف! ونحن نقف كمصلين في محراب الاحتراف، وأجزم بأن الشمس وقفت في برجها هناك؛ لأن نورها خف!  الطائر يدور ويردد سمفونيته، ونحن نحاكي وقوفها بخشوع، ولم يغلق ستار هذا الفصل؛ إلا ماء السماء الذي هبط بتؤدة، فعادت ومرت بجانبنا نحن تماثيل العطش وكان الماء يقطر من ثوبها ويمنح الناصية ترياق حياة.. عذراً، كنّا نسرف في لعق بلل ذلك الرصيف.  

تراتيل جاري
تصل لمسمعي عبر السور، لم أحدّد أنه يجلس أو يقف حين يردد تلك التراتيل، غير أنها تمس شغاف القلب، وتغلق كوى تفكيري المظلمة... حتى أصبحتُ اسيراً لتلك الترددات الفارقة، ألحان يغلفها الحزن الشفّاف، لم أحدّد بالضبط، هل هي أغنيات أم مراثٍ؟ بيد أن الإنصات لها كافٍ لجعلي أخرج من تيه الوحدة، وأشارك كل مغردات الدنيا لحن النقاء.
في صباح ملتبس بالتوجس توقف صوت جاري، وبعد انتظار طويل؛ عاد الترديد غير أن الصوت به غرابة، فقفزت السور؛ كي أستعلم الخبر، فوجدت جثة جاري وقربها ببغاء يكرر ألحانه المحببة بينما ابناؤه يناقشون أمر تقاسم الإرث.