بين الحكي والقصّ

ثقافة 2024/07/16
...

 محمد صابر عبيد

تقوم الرواية الموسومة {أوراق مجهول} لسلمان داود الشويلي على مجموعة أوراق تبدأ بـ{ورقة خارجية}؛ تعقبها {الورقة الأولى} وصولا إلى {الورقة الثامنة عشرة} وبعدها {ورقة خارجية ثانية}، وتحمل هذه الأوراق من البداية إلى النهاية سرداً أقرب إلى الحكي منه إلى القصّ على لسان راو ذاتيّ، يمثل الشخصيّة الرئيسة في الرواية صحبة شخصيّات رئيسة أخرى تقتسم فضاء الحكي على نحو شبه متوازن،

فشخصيّة "خيري" هي شخصيّة الراوي الذاتيّ تتصدّر حفل الحكي مع شخصيّة صديقه وقريبه "راضي"، وهما يعملان مدرّسَين في مدرسة القرية، القرية التي تسكنها عشيرتهم في جنوب العراق، ولكلّ منهما حبيبته وخطيبته وزوجة المستقبل: "كنتُ واقفاً من الواقفين أمام باب المضيف الكبير إذ ازدادت حركة الداخلين والخارجين منه، وكان صديقي وكاتم أسراري مع ابنة عمي (راضي) -وبالمقابل كنت أنا كاتم أسراره مع حبيبته (فوزية)- يقف بجانبي، وعيناه لا تبرحان باب الدار الكبيرة علّهما تريان حبيبته (فوزة) كما يحلو له أن يسميها".
فشخصيّة خيري وشخصية راضي هما الشخصيّتان المحوريّتان في الرواية، وتدور حولهما ومنهما الأحداث قرباً أو بعداً، لكنّ ظروف العشيرة الاجتماعية حالت دون زواج كلّ منهما حبيبته، وما كان لهما فيما بعد إلّا أن يتزوج أحدهما أخت الآخر ويعيشون جميعاً حياة روتينيّة، بعد أن أنهيا دراستهما الجامعية وحصلا على وظيفتي التدريس في المدرسة التي ليس فيها سوى خمس طلبة، قبل أن يقرّرا النقل فيما بعد إلى مدارس بغداد من أجل لقاء الشيخ "نهر" الأخ الوحيد الذي يعرف أسرار الشيخ الكبير، وقد طُرد من مضارب العشيرة بعد وفاة أخيه والتصريح بعقمه وبأنّ ابنه الذي يعيش في الغربة لم يكن سوى كذبة من الوكيل وابنه فيما بعد؛ للحصول على أموال الشيخ الكبير من مزارعه وأراضيه وممتلكاته الكبيرة، وحين تمكّنا "خيري" و"راضي" من اللقاء بالشيخ "نهر" تأكّدا من الحقيقة التي كانا يعرفانها جيّداً.
يروي "خيري" مجموعة من الأحداث المتمركزة حول فضاء القرية والريف والعشيرة وما يتّصل فيها وحولها من حكايات، ولا سيّما موت الشيخ الكبير من دون أن يوصي بالمشيخة من بعده لأحد؛ على نحو أثار فيه مشكلة كبيرة للقبيلة بحيث تخضع الأمور بعد ذلك لاجتهادات ومصالح ومفارقات كثيرة، يعمل عليها القاضي البدين والوكيل والشخصيات الأخرى المحيطة بشيخ القبيلة، وتشتبك الأحداث في الرواية على نحو لا يصبّ في صالح هاتين الشخصيّتين، على النحو الذي يتغيّر فيه مصيرهما الذاتيّ الشخصيّ على النحو الآتي: "في ساعة من ساعات ظهيرة أحد أيام الصيف الحارّة، التي تبول فيها الحمير دماً، كنت جالساً وحدي في غرفتي في الطابق الثاني من بيتنا، بعد أن تزوجت من شقيقة راضي، وتزوج راضي من شقيقتي.
فتحت سجلّي ورحت أدوّن ما كنت أذكره من أيام الحب -وامتلأت هذه الصفحات برسومات لأزهار بألوان زاهية- التي لم تشوّها أيام المحنة التي عصفت بنا نحن أبناء القبيلة".
وتبرز حلقة مهمّة في جوهر الحدث الروائيّ تمثّل علامة من علامات تشكّل هذا الحدث، ولا سيّما أنّ زوجة الشيخ الكبير "وردة" ادّعت بعد وفاته أنّها حامل لكنّه ما لبث أن عرف الجميع زيف ادّعائها فيما بعد، وظلّت هذه الحلقة في الجانب الآخر هي الفاعلة في صالح أكثر من طرف له مصلحة في إثبات صحّة أنّ الشيخ الراحل له ولد مغترب: "شيخ سلف العماريين الذي ادّعى في تلك الجلسة أنّ الشيخ الكبير قد ائتمنه على ابنه، ابن زوجنه الإنجليزية، الذي يدرس خارج العراق، وادّعى -كذلك- أنّ الشيخ الكبير طلب منه أن يرسل لابنه المال ليكمل دراسته ليعود إلى القبيلة ويمسك بزمام أمورها".
وحين حاول أحدهم تفنيد هذه الرواية بحجّة دامغة تعرّض لأقسى أنوع العقاب وهُجّر من القبيلة إلى جهة مجهولة: "هذا الشخص نهض واقفاً في المضيف وأعلن بصوت جهوريّ: أنه كان مع الشيخ الكبير في إحدى سفراته إلى بغداد، وقد أخبره الأطباء بعقمه".
مع أنّ الجميع تقريباً يعرف بعقم الشيخ الراحل تقريباً لكنّ السطوة والقوّة هي في جانب من يريد لهذه الكذبة أن تكون شائعة وقابلة للتصديق، وتعدّ هذه العلامة السرديّة منعطفاً مهمّاً نحو نقل الحكاية من طبقة سرديّة إلى طبقة سرديّة أخرى، في سياق نسق مضمَر يعمل في مستويين؛ الأوّل ظاهر يناسب أفق السرد وينتظم في مساره من حيث هيمنة شخصيّة على ما يوجد من خلل في بنية الثقافة الاجتماعيّة، ونسق خفيّ تتحرّك تحت ظلّه حيوات أخرى تكشف عن ضغط التقاليد في قدرتها على تغيير المصائر، ضمن حالة الاستغلال البشع الذي تتصارع فيه الثقافة الجديدة الطالعة صحبة رؤية الشباب؛ مع العادات والتقاليد الجائرة التي تقمع الثقافيّ وتنتصر للتداوليّ والسائد والمألوف بعيداً عن أبسط انقلاب محتمَل في الأفق.
تتطوّر الأحداث وتتكشف منافذ جديدة للحدث الروائي بعد أن استقرّ "خيري" وصديقه "راضي" في بغداد، وكان اللقاء المستمر مع العم "نهر" وزوجة الشيخ الأكبر العمّة "وردة" حيث روى كلّ منهما سيرته بالتفصيل لهما، ومن ثم تنتهي الرواية بموت أغلب الشخصيّات؛ لكنّ ميتة الشيخ الأكبر من دون أن يوصي بخلف له كانت الميتة الأهمّ في الرواية، وتؤول الأحداث في الخاتمة إلى مصائر طبيعيّة تشبه الحياة في أحداثها التقليديّة، غير أنّ الراوي يحاول في "ورقة خارجيّة ثانية" -هي ورقة الإقفال السرديّ في الرواية- أن ينتقل من منطقة الحدث كي يواجه القارئ مباشرة، ويخبره بأنّ فضاء السرد هو فضاء متخيّل لا علاقة له بالواقع، وهنا يظهر صوت المؤلّف الحقيقيّ بعد أن يزيح الراوي الذاتيّ جانباً: "لهذا ترى أيّها القارئ اللبيب أنّ خيري-ربما- أنا، أو أنا -ربّما- خيري، وما وجود شخصيات إحداها تكتب الرواية بواسطة القلم والورقة، أو بضرب لوحة مفاتيح الحاسوب، والأخرى تنظم وتلم وتخبر عن أحداثها، إلّا لعبة روائية كنت تعلّمتها عند قراءتي لمئات الأعمال الروائية لأساطين الرواية في العالم".
تنهض هذه اللقطة على نوع من اللعبة السردية تندرج في سياق ما يسمّى "الميتا سرد"؛ حيث يترك الراوي عمله حين يرغب المؤلّف الحقيقيّ بالتدخّل لإثارة انتباه القارئ على نحو من الأنحاء، من أجل توكيد خياليّة الحادثة الروائيّة، إذا كان هذا القارئ يعتقد أنّ السيرة الذاتيّة للكاتب داخلة في صلب العمل الروائيّ؛ بحكم وجود كثير من العلامات التي يمكن أن تحيل على مرجعيّات سيرذاتيّة، لكنّ المؤلّف الحقيقيّ -وهو يقتحم فضاء السرد في ورقة وضعها خارج ميدان الاشتباك السرديّ في الرواية- ينفي ذلك تماماً، حين أنشأ هذه الورقة الإضافيّة كي يقول شيئاً لا علاقة له بأفق السرد وتفاصيله المروية.  
إنّ هذا التدخّل الذي يقوم به المؤلّف الحقيقيّ داخل إشكاليّة الحكي والقصّ تُنبّه القارئ إلى أنّ السرد الروائيّ ينتمي إلى القصّ "التأليف"، وليس إلى "الحكي" الذي ينقل واقعة ذات مرجعيّة سيرذاتيّة حقيقيّة كما قد يتبادر إلى ذهنه، غير أنّ الفضاء السرديّ العام في الرواية على مستوى اللغة والفعل السرديّ والتفاصيل السرديّة أقرب إلى الحكي منه إلى القصّ، بسبب محدوديّة الحسّ التخييليّ الذي يقتصر على لمحات قليلة لا تفي بالغرض المطلوب، في حين يتحرّك المحكيّ بقوّة جعلت المؤلّف يتدخّل بهذه الصورة كي يمنع بلوغ القارئ إلى عتبة هذا التصوّر.