د. خالد حميد صبري
المناظرة باختصار هي حوار علمي أو ثقافي أو معرفي بين شخصين أو أكثر، كل طرف فيها يسعى لإثبات وجهة نظره وإبطال وجهة نظر الطرف الآخر؛ إذن هي نوع من الحجاج الذي يتطلب اشتراطات كثيرة، من بينها المعرفة العميقة والدقيقة بالموضوع الذي يخوضون فيه، والدراية في صوغ الخطاب وفي سَوق الحجج والبراهين.
شاعت المناظرات في بغداد في العصر العباسيّ بشكل واسع بين الفقهاء والمتكلمين واللغويين والأدباء.
ومن المناظرات العلمية المهمة التي شهدتها بغداد تلك التي عُقدت في سنة 320 هجرية بين عالم اللغة والنحو أبي سعيد السيرافي، وعالم الفلسفة والمنطق متّى بن يونس، وكان موضوع المناظرة حول الصراع بين النحو والمنطق، أيّهما أولى بالدراسة والاهتمام، وعلى أيّهما نعتمد؟
انعقدت المناظرة في مجلس ابن الفرات وزير الخليفة العباسيّ المقتدر، وحضرها عدد من العلماء المعروفين، منهم قدامة بن جعفر، وعلي بن عيسى الرماني الذي دوَّنَ المناظرة ورواها مشروحة وأملاها على التوحيديّ، ليضعها الأخير في الليلة الثامنة من كتابه المعروف (الإمتاع والمؤانسة).
من يقرأ هذه المناظرة التي أدارها الوزير ابن الفرات بحرفية عالية يجد أن السيرافيّ (النحوي) كان أكثر إقناعاً من متّى بن يونس (المنطقي)، وحججه كانت أقوى، واسترساله في عرض المسائل كان أفضل.
أما متّى فكان عارفاً بالمنطق، لكنه لم يكن كذلك بالنحو ودقائق العربية، وكان يجهل حروف المعاني ووظائفها ومواضع استعمالها، وكانت إجاباته قصيرة وغير مقنعة، على الرغم من ادّعائه بأن النحويين لا يعرفون مواقع الحروف ووظائفها، لكنّ السيرافيّ نجح في إظهار جهل متّى بالعربية ونحوها، وعجزه عن إقناع الحاضرين بصحة ما يقوله عن صلة المنطق بالنحو، وبيَّن أن متّى يتحدث عن الصلة بين مجالين لا يعرف شيئاً عن أحدهما. فكانت النتيجة انتصاراً للنحويّ واندحاراً للمنطقيّ، أو بعبارة أخرى كانت انتصاراً للنحو على المنطق، وهذا ما شاع وقتذاك في أوساط بغداد العلمية والأدبية. فضلا عن ذلك يبدو أنّ هناك أسباباً أخرى ساعدت على هذه النتيجة، تتعلق بالصفات الشخصية للطرفين المتناظرين، فالسيرافيّ كان ذا شخصية قوية، ولسان متصرف ووجه متهلل، وكان معروفاً بالدين والجدّ والفضل والزهد، وكان عمره 40 سنة، أما متّى فكان شيخاً كبيرا ناهز الخامسة والسبعين، ومما يُشاع عنه أنه "كان يملي ورقة بدرهم مقتدري "نسبة إلى الخليفة المقتدر" وهو سكران لا يعقل، ويتهكم، وعنده أنه في ربح وهو من الأخسرين أعمالاً، والأسفلين أحوالاً".
وهكذا كانت المحصلة أن تكرّست الشكوك لدى الناس في فوائد المنطق والفلسفة ودعوى أصحابهما.
وبغض النظر عمّا آلت إليه المناظرة من نتيجة آنية، فإنها كانت - فيما بعد- سبباً في إثارة الكثير من الأسئلة والمناقشات، وفي تأليف الكتب أيضاً، ومن ذلك أن تلامذة الفارابي كانوا يطلبون من شيخهم أن يجيب عن أسئلة السيرافي التي لم يستطع متّى بن يونس الإجابة عنها، وكان الفارابي يستجيب لهم في حلقات مجلسه، وكانت إجاباته تلك سبباً في تأليف كتابه المعروف (الحروف) الذي يُعدُّ أعظم مصدر للمشتغلين بدراسة الفكر العربي، والفلسفة الإسلامية، وعلوم اللغة العربية، كما أنه أول شرح - في التراث العربي- لكتاب أرسطو "ما وراء الطبيعة"، الذي اعتمد عليه معظم الشراح الآخرين مثل ابن سينا وابن رشد وغيرهما.