سِفْرُ الجواهري

ثقافة 2024/07/16
...

  أمين قاسم الموسوي

"الجواهري ومعاصروه"، هذا هو العنوان الرئيس لآخر ما جادت به جهود أ.د. عماد الجواهري، وقد صدر عن دار تموز/ ديموزي/ دمشق 2024، وقد جاء العنوان بحرف كبير ملون بالأحمر، ثم وضع تحته عنوان توضيحي بحروف أصغر، ولون أسود، وهذا الاختلاف في اللون وحجم الحرف له دلالته في الإشارة إلى محتوى الكتاب، والعنوان بلونيه، عنوان عريض لأسباب من أهمها حياة الجواهري بطولها وعرضها وتشابك أَحداثها، ولذلك جاء الكتاب ضخماً فخماً بصفحاته التي تجاوزت الثلاثين وأربعمئة من القطع الكبير، بحروف صغيرة، وقد قصر المؤلف بحثه على مرحلة نشوء الدولة
العراقية عام 1921 حتى سقوط الملكية عام 1958.  قدم للكتاب أ.د. سعيد عدنان مقدمة امتازت بما امتاز به صاحبُها من رشاقة وتماسك ودقة، ولذا فقد علل العلاقة بين المؤلف المختص بالتاريخ والأدب ممثلاً بالجواهري الشاعر ومعاصريه، بقوله: "وقد اتضح له أن بين الأدب والتاريخ وشائج لا تنفصم، وأن الأدب لا يفهم حق الفهم من دون أن يوضع في سياقه من التاريخ، وأن قِطعاً من الشعر والنثر تظل مستغلقة المعنى من دون أن يسلط التاريخ ضوءَه عليها"، والمؤلف يفصح عن دوافعه التي دفعته لبذل هذا الجهد الجهيد الذي استغرق أربع سنوات من البحث والتوثيق والمقارنة، فهو يفصح عن هدفه وهو: "ايجاد صيغة مبتكرة من التداخل بين التاريخ الثقافي والتاريخ السياسي" وقد نهج المؤلف نهجاً علمياً في بحثه متبعاً ما يبتغيه الأكاديميون من أصول البحث والتوثيق التي تعتمد الطريقة العلمية التي يوضحها بقوله: "إنَّ صفحات الكتاب حافلة بالهوامش التوضيحية معلمة برسم (وردة) أو أكثر حسب عدد الهوامش التوضيحية، أما الإحالات إلى المراجع فإنها تابعت أسنى آليات الإحالة وأحدثها، وهي أن تكون مبثوثة في متن صفحات الكتاب".
وهذا التوضيح والتوثيق يجعلان الكتاب مرجعاً موثوقاً لدى الباحثين عن الحقائق ومظانها، انطلاقاً مما اعتمده المؤلف من مراجع، فإن ما يخص الجواهري منها جاء معتمداً على شعره، وذكرياته التي دونها "ذكرياتي" بجزأَيها وكتاب "الجواهري شاعر العربية" لعبد الكريم الدجيلي، فقد كانت هذه المصادر ثلاثتها هي المعين الذي استقى منه المؤلف ما يخص الشاعر الجواهري، ولا نعدم مراجع أخرى، ومباحث الكتاب الأحد عشر، انصبت على الشعر، إلا ما ندر من إشارات عابرة عن النثر وعَلَمَيْه، فهمي المدرس وابراهيم صالح شكر، أو مقالات الجواهري في افتتاحياته لصحفه، ولا عجب في هذا المرور السريع بالنثر، لأن الجواهري - رغم جودة نثره - يطغى شعره على نثره، هذا أولاً، وثانياً إن المرحلة التي اقتصر عليها البحث 1921 - 1958، كان الشعر العراقي فيها وعلى رأسه الجواهري، متسيدَ الميدان الثقافي كماً ونوعاً حتى أن محاولات أمين الريحاني في ما سماه  الشعر المنثور، وهو نثر، كان من أسباب عدم الانتشار وقلة المتقبلين هو تسيد الشعر الموزون الذي يصل إلى عقول وقلوب العراقيين ويؤثر فيها على الرغم من أن بعض المثقفين كروفائيل بطي قد حاول محاولات جريئة في الخروج عن الوزن والقافية متأثراً بما دعا اليه أمين الريحاني، وثمة آخرون غيره ساروا على النهج نفسه مثل سلمان الشیخ داود وتوفیق الفكيكي، ونثر ابراهيم صالح شكر المتأجج العاطفة، المترعة نصوصه بالأَخيلة والازاحات، ما يجعله أنضج وأقرب إلى عالم الشعر من روفائيل بطي وسلمان الشيخ داود، ولكنّ ابراهیم صالح شکر كان يرفض توصیفه بـ "شاعر" ويكتفي بصفة "كاتب".
ومادمنا بصدد ذكر أمين الريحاني وتأثيره في الأسماء التي مر ذكرها، فإن له مع الجواهري أكثر من مسألة، ترسم أكثر من علامة استفهام، لعلَّ أكثرها إثارة، ما كتبه الريحاني عن عينية الجواهري التي كتبها في الذكرى الأولى للثورة العراقية ثورة العشرين، إذ يقول المؤلف: "هذه الثورة لم تجد في ما كتبه الريحاني عنها ما ينصفها فهي برأيه لم يكن فيها شيء من الخير لأهل العراق ولا للحكومة المحتلة"، "والانكليز في تفوقهم
محسنون، وفي ظلمهم عادلون"، ومن شاء المزيد من مواقف وآراء أمين الريحاني، فليعد إلى ما ثبته المؤلف عنه في كتابه هذا، مع اثباته لمراجعه التي استقى منها، مع العلم أن للجواهري قصيدة في أمين الريحاني، حواها ديوانه، مطلعها :"لمن المحافل جَمةُ الوفّادِ/ جل المقامُ بها عن الانشاد".
وهي قصيدة عارض فيها قصيدة أحمد شوقي مادحاً الريحاني عند زيارته مصر، ولعلَّ الموازنة بين القصيدتين تكشف لنا الفرق بين الشاعرين شوقي والجواهري، فكراً وشعرية، عسى أن يسمح الزمن بالعودة إليهما للموازنة والكشف في الختام.
إنَّ سِفر أ. د. عماد الجواهري هذا، أنجازٌ مميز جدير بالقراءة، وجديرٌ بالتقدير، وقراءَتي المتواضعةُ هذه لا يمكن أن توفي الرجلَ حقه وجهدَه مؤرخاً أَميناً وناقداً حصيفاً.