جبّار الكواز
"تنّورةُ جينز قصيرةٌ" مجموعة قصص قصيرة لمآب عامر حازت المرتبة الثانية في مسابقة الأدباء الشباب/ الدورة الخامسة 2024 ومن منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق.
يشكل غلاف المجموعة بوصفه مدخلاً إشارياً إلى عوالم قصص المجموعة، وهو مصور لطفلة ترتدي التنورة الجينز القصيرة في سوق شعبي عراقي وهو ما يحيل بصورة مباشرة إلى واقع قصص تجري أحداثها وسط حضور جماهيري شعبي، وتشير صورتها إلى حركة مستمرة للدخول إلى خضم واقع متخم بشخوص وأحداث وبعلاقات سرية وعلنية في حين إن الإشارة الثانية في هذه المجموعة تختصرها مقولة " جينيفر جروسولاس": اجمع ألمَكَ، وضعْهُ في مكان ما، فكّرْ إنّ كلّ إحساس حيّ، لا يمكن حذفه. هذه المقولة لم يكن اختيارها اعتباطاً، بل ثمة قصدية واضحة تؤكدها عامر حين اتخذت من نصوصها القصصية مكاناً لجمع أحاسيسها الحيّة التي لا يمكن لأية قوّة حذفها، ترى هل تمكنت مآب من تحقيق العلامة الإشارية لهذه المقولة الجميلة؟ وقبل الإجابة على هذا السؤال لابدّ للقارئ أن يدرك في قصص المجموعة آليتين أساسيتين في المشغل الإبداعي القصصي وانغمرت فيها هما:
1. الواقع اليومي والانغمار فيه واستكناه الأمكنة بوصفها حيّزاً تفاعلياً وجمالياً سلباً وإيجاباً يشكل صرّة الحدث في كل قصص المجموعة وأحياناً يشكل الواقع اليومي إشارة قوية بوصفه بطلاً لها لأن القاصة في لحظات انغمارها الروحي والواعي تتعمق في تشكيل صورة الواقع عبر الصور القصيرة والأحداث المتلاحقة وأبطال مهمشين يسعون لتشكيل ذواتهم عبر علاقات عابرة أو قارة تأكيداً لدورهم الإيجابي والسلبي في استثمار علاقات الناس واختلافات مشاربهم ورؤاهم في صنع واقع القصص.
2. الاهتمام بالشيئية التفصيلية وتأثيثاتها المكانية أو الزمانية بوصفها شظايا متراصة تدعم السرد بقوة الملاحظة الدقيقة في وصفها للأشياء المكونة لصورة الواقع، فيبدو الاستغراق بشيئية الأشياء واستنطاق ممكناتها لدعم البناء السردي وصولاً إلى فك لاشتباكات حصلت أو ستحصل.
ولم يلتفت السرد العراقي كثيراً إلى أهمية تأطير الواقع اليومي للأحداث بالشيئية كآلية فاحصة وداعمة للحدث ويكتفي أحياناً بإشارات سريعة وبسيطة لا تعطي المتابع تصوراً واضحاً أو تواصلاً قادراً على دعم مخيلته بشكل استثنائي.
ففي كلّ نصوص المجموعة نرى اهتماماً باذخاً بتفاصيل الواقع مكاناً وزماناً بوصفه بطلاً أحياناً أو شاهداً على تجارب عابرة عاشتها القاصة في يومياتها البغدادية، ولهذا فإننا لا نفاجئ أن نجد مفردات عديدة تهتم بتفاصيل المكان واقترانه بزمن آفل أو متخيل من خراب الواقع الأول.
ففي النص الأول "عبوة ماء" وغيرها من النصوص ندرك حالة الترقب التواصلية اليومية التي عاشتها البطلة وهي في سيارة أجرة عامة شائعة في شوارع بغداد وتفاصيل ما جرى في داخل السيارة وتفاعلية مساعد السائق الذي يراقب الواقع بعين فاحصة وصولاً إلى بؤرة اللحظة القصصية المحرجة حين خطف عبوة ماء لم يتبقَ منها إلا ربعها، وهو يعرض بضاعته في إيصال الراكبين إلى أماكنهم المعروفة هذه الحركة التفاعلية الدافقة بالنشاط والتأمل والسهو أحياناً تشكل علامة فارقة في نصوص هذه المجموعة ولو تصفحنا أوراق "تنورة جينز قصيرة" تستلهم القاصة حادثة بسيطة من خلال مراقبتها لبنت صغيرة ترتدي تنورة جينز قصيرة وقميصاً أصفر والانغمار بمراقبة هذه الصبيّة من خلال واقعها اليومي وتحملها كل ما يمكن أن يخطر على بال الرائي وهو يتابع حركاتها وصولاً إلى ما كلفت به من مهام خاصة بأسرتها لتنتهي وهي تبتسم لحياة ما، حياة تتمنى أن تعيشها بكل صخب مضاف إلى صخبها الفطري في أحداث القصة.
عنوانات القصص تفتح أمامنا واقعاً بغدادياً بكل تناقضاته وإيجابياتها "بقعة/ خصلات/ شارع/ قصاصة/ شكولا/ لاتيه/ اكسيليفون" نرى أن أغلبها جاء بصيغة النكرة.
ويبدو أن القاصة وقبل انغمارها بكتابة تجاربها اليومية تنطلق من مجهولية التجربة واقعاً ليتشكل النص بوعيها مركزاً ينطق به المكان والزمان مغالباً الشخوص المتحركة داخله.
ولو أردنا كشف آلية شيئية الواقع في هذه المجموعة لوجدنا أن عامر تنغمر حدّ الاستغراق في التعامل مع الواقع عبر تأطيره ومكوناته بهذه الشيئية، فيكون انغمارها بالمكان كحيز مركزي استثنائي في صنع التجربة كسمة للنصوص بحركتيها المدركة بقوة سحرية الشيئية المضافة إلى تأثيث المكان واعتماداً على جمل قصيرة وتكثيف لغوي وظيفي وموازنة عقلانية بين نسيج الحدث وتأطيره بالمكان كحيز واقعي استثنائي مدعماً بتفاصيل مركبة لتكون عوناً على خلق ديناميكية النصوص وجمالية السردّ الذي يضفي إلى الحركة واقعاً ويشكل الواقع البغدادي سطوة كاملة على واقع قصص المجموعة المبثوث من خلالها آلام دفينة على مستوى الذات والموضوعية والاتكاء على الحيز المكاني ببعده الإنساني مروراً بآلام غير ناطقة لكنها تنطلق من دواخل بطل القصة وبغربة روحية يسمح بها الواقع من خلال سكونيته وحركيته وصولاً إلى خلق صور حقيقية لما يكتنف الواقع العراقي من سحرية غرائبية وعمق متنام يطفح أحياناً على ألسنة الأبطال أو من خلال سرديات تُفصح عن ألم عراقي دفين يسير معنا أينما التفتنا كل ذلك تقول النصوص الأخرى كــ "بقعة" في رؤية غارقة بالكلام و "خصلات" شيئية عميقة في محل الكوافير، و"شارع" في تسارع الخطى بنهاية مفتوحة و "قصاصة" بالسرد المتبادل بين البطلة وفريق الرقص و "فراش" المراهقة في واقع منغلق و "تايكر وسيكارة" عن حياة طالبات وما يحدث بينهن ولهن و"الأبواب المغلقة" ونسائه الثلاث وطفلاهن الجامد أمام شاشة التلفزيون، كلّ هذه العوالم تؤكد قوة المخيلة لدى القاصة وفصاحة ترتيبها للأحداث ومشاركتها أحياناً بلغة بسيطة وسهلة وتواصلية تعطي ما للواقع اليومي من صلة كبرى بالإبداع وما للشيئية من دافع متين لخلق نصوص رائعة وقريبة للروح.