حازم رعد
يمكن للمتطلع بعمقٍ أو الذي يقرأ مشهد الحدث الحسيني بطريقة أكثر دقة وتحليلا ولا يقف عند القراءات التقليديَّة لذاك الحديث يستشف أن الأهداف التي حملها الإمام الحسين كانت متنوعة لا من حيث النوع فقط وإنما من حيث مرحليَّة الهدف فمثلا يلاحظ أنه {ع} في فترته المدينيَّة (أثناء ما كان متواجداً في مدينة رسول الله وبعيد هلاك معاوية وبدايات تولي يزيد للسلطة) يبرز من خلال القراءة الواعية بان هناك نوعاً من الأهداف مختلفاً عن أهدافه في مكة المكرمة وكذلك تختلف عن أهدافه أثناء مسيرته الى كربلاء.
إذ كان الهدف الرئيس في المدينة متشعباً الى اثنين؛ الأول هو عدم البيعة ليزيد بأنَّ صورة من الصور وهذه القراءة تؤكدها الحادثة التي جرت بين الإمام الحسين ووالي المدينة الوليد بن عتبه، إذ إنَّ الأخير طلبَ من الإمام الحسين البيعة فأراد “ع” أنْ يماطلَ بالأمر أو أنْ يؤخرَ الصدام مع السلطة فاتخذ أسلوباً يمكن تسميته بالمناورة نوعاً ما، إذ إنَّه “ع” في معرض ردّه على حاكم المدينة كما ينقل ذلك الطبري في تاريخ الرسل والملوك ج٦ (أما ما سألتني من البيعة فإنَّ مثلي لا يعطي بيعته سراً ولا أراك تجتزئ بها مني سراً دون أنْ تظهرها على رؤوس الناس علانيَّة، قال: أجل.. قال عليه السلام: فاذا خرجت الى الناس فدعوتهم الى البيعة دعوتنا مع الناس فكان أمراً واحداً).
حتى إذا استقامت فكرة الخروج من المدينة الى مكة خرج ليسلم بنفسه من البيعة ومن القتل معاً بينما نجد هناك تحولاً جوهرياً في أهداف الإمام الحسين “ع” ونفهم أنَّ هناك نوعاً آخر من الغايات تدور في خلد الإمام “ع” ونستشفُّ ذلك من ردّ الإمام لعبد الله بن الزبير من للإمام حقٌ قانونيٌّ أولاً وشرعيٌّ ثانياً بالخلافة، إذ قال له “ع” كما ينقل ابن اعثم الكوفي في الفتوح ج٥ [إني لا أبايع له أبداً لأنَّ الأمر إنما كان لي من بعد أخي الحسن فصنع معاوية ما صنع حلف لأخي الحسن أنه لا يجعل الخلافة لأحدٍ من بعده من ولده وأنْ يردَّها إليَّ إنْ كنت حياً….)
أراد الإمام أنْ يذكر عبد الله بإرهاصات صلح الإمام الحسن مع معاوية والعهود والمواثيق التي قطعها الأخير بأنْ يردَّ أمر الخلافة للحسن أو للحسين إنْ كان حياً، فالهدف هنا “سياسي وقانوني” بامتياز ناظر لاسترداد حقٍ مستلبٍ وطريقة حكم انحرفت بمسارها عن جادة الصواب.
فالهدف إذاً تغير في مكة المكرمة عمَّا كان عنه في المدينة المنورة، ولذلك حرص الإمام الحسين على الخروج من المدينة من دون إحداث جلبة ومن دون إعلانٍ مسبقٍ حفاظاً على نفسه ودرءاً لصراعٍ محتملٍ قد يحدث فيها/ حتى أنه لم يبق إلا ثلاثة أيام من علمه بموت معاوية ولكنه في مكة استقرَّ وأخذ خبره يشيع بين الناس بل وسائر الأقطار الإسلاميَّة وأخذ الأعيان والوجهاء وأقطاب المعارضة يلتقون عنده ويتبادلون الحديث بشأن الانحراف الذي حصل داخل الجسد الإسلامي وكيف أنَّ بني أميَّة كان لهم الإسهام الكبير في هذا الانحراف وهناك في مكة وصلت الى الحسين كتبُ أهل الكوفة تشكو إليه ظلم الأمويين وكتبٌ تحثه على المضي إليهم ، إذاً هو في مكة غير ما كان عليه في المدينة. وأيضاً لو تتبعنا الخطاب الحسيني أثناء ذلك السفر الخالد لتظهر لنا أنَّ دائرة الأهداف تتوسع ولا تقف عند حدودٍ معينة ويمكن تفهم ذلك من خلال جواب الإمام الحسين لأخيه محمد بن الحنفيَّة حينما بيَّنَ له أنَّ أهداف وأسباب الثورة ليست سياسيَّة فقط ولا هي من قبيل الوقوف بوجه الحاكم الظالم وإنما هي غاياتٌ تنشد التغيير وإحداث تحولٍ في الانحراف الذي لحق المجتمع الإسلامي بسبب إساءات الأمويين وولاتهم في البلاد الإسلاميَّة، إذ قال له “ع” (إنَّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنما خرجت لطلب الإصلاح...)، وكذلك يفهم من الخطاب الحسيني أنَّ تغييراً جوهرياً حدث على المفاهيم الإسلاميَّة فقد عمد الأمويون الى حرف السنة وإحداث البدع فيها وإظهار ما لم يكن المسلمون يعلمونه قبل حكومة بني أميَّة، وهذا الأمر نستشفه من كلام الحسين “ع” في رسالته لأهل البصرة وهو يستحثهم هلى نصرته والوقوف معه في هذا الأمر العظيم الذي هو مقدمٌ عليه، إذ ورد في تلك الرسالة [… وأنا أدعوكم الى كتاب الله وسنة نبيه، فإنَّ السنة قد أميتت والبدعة قد أحييت وانْ تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد… ] فموت السنة وظهور البدعة أوضح مثالاً يقدمه الإمام الحسين على الانحراف المفاهيمي الذي حصل داخل منظومة المجتمع الإسلامي وقد وجد أنَّ هناك ضرورة لمواجهة هذا الانحراف وعدم التواني أو التهاون أمامه، ومن ذلك يفهم أنَّه لم يقتصر الأمر على عدم البيعة ليزيد الأموي، بل إنَّ الأسباب التي عزاها لخروجه، تدعو الى الاحتكام والالتحام مع يزيد في حربٍ أقلها أنْ تطير فيها الرؤوس وتقطع الأيادي.
حاصل الفكرة التي أودُّ قولها إنَّ أهداف الإمام الحسين “ع” تنقسم الى أنواعٍ منها أهدافٌ وقتيَّة ومكانيَّة محدودة بحدود زمانٍ ومكانٍ معينين كما أسلفنا في هدفه بعدم البيعة ليزيد وهو في المدينة، وهناك أهدافٌ ستراتيجيَّة بعيدة المدى والأمد وأقد أخبر هو (ع) عنها بطلب الإصلاح في أمة جده رسول الله، فماهيَّة الأهداف مختلفة ومتفاوتة من حيث الكيف
والمرحلة.