{إيفيت أشقر}.. الغموض والتجريد

ثقافة 2024/07/22
...

 آري أمايا أكرمانز
 ترجمة: مي اسماعيل

توفيت الفنانة اللبنانية "إيفيت الأشقر" عن عمر يناهز 96 عاما، صباح يوم 12 مايو الماضي.
هي شخصية بارزة في المشهد الفني بلبنان أمتد تأثيرها إلى الفن العربي الحديث، ورائدة غزيرة الإنتاج في الرسم التجريدي بعد الحرب، عرضت أعمالها في لبنان لمدة 50 عاما تقريبا.
لم تحظَ الأشقر بالتأبين اللائق لمكانتها؛ وهو أمر لا يقتصر على كونها "فنانة منسية" نوعا ما؛ فهناك العديد من العقبات العامة المتوقعة؛ مثل غياب الأرشيف التاريخي لأعمال الفنانين في لبنان، والوضع غير المستقر للمرأة في الفن الحديث، أو المبالغة في تقدير الفن التصوري لفترة ما بعد الحرب.
لكن هناك أيضا نواحٍ تختص بها الأشقر في مسيرتها الفنية الطويلة؛ فهي لم تكن فقط شخصيةً شديدة الخصوصية فحسب؛ بل رفضت أيضا تسميات مثل "الرسامة التجريدية" أو "النسائية"، ولم تترك وراءها إلا القليل جدا من التعليقات على أسلوبها المُحكم المُميّز.. لوحاتها الايقونية حقول ألوانٍ صرحية ضخمة بألوان باستيل زاهية، يبدو مركز الجذب الثقيل فيها مُعلقاً.. أو مسحوقا تحت ثقل السطح. في أعمالها المتأخرة بدأ المركز يتفكك إلى خط رفيع؛ لعله إشارة إلى الفناء وتناقص الوقت.
يقول كاتب المقال: "حينما ترى أعمال "الأشقر" ستتعرف عليها في أي مكان، وسيصعب نسيانها.. لكن تفسير تلك الأعمال أمرٌ أكثر تعقيدا.. لا يسهل فك رموز لوحاتها أو ألتقاط نظرة عامة متواضعة عن حياتها المهنية، ولا صياغة بعض الأفكار الأساسية حول ما أرادت قوله..". يمكن القول أن "الأشقر" كانت واحدة من أواخر الرسامات التجريديات في لبنان والمنطقة، والتي ارتبطت أعمالها مباشرة بالتاريخ المضطرب للتجريد في اوروبا القرن العشرين؛ إذ ارتبط عملها بشكل دقيق بالصعود السريع في باريس خلال خمسينيات القرن الماضي لحركة جديدة من الفن التجريدي أصبحت عالمية، وبسياسات الفن اللاموضوعي التي حددت حقبة الحرب الباردة.
ولدت الأشقر في البرازيل عام 1928 لوالدين لبنانيين، وعادت الاسرة إلى بيروت حينما كانت إيفيت في العاشرة من عمرها. أصبحت عام 1947 واحدة من أوائل طلبة "الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة" التي افتُتِحت حديثا.
وكان من زملاء دراستها فنانان مثل "شفيق عبود، وجان خليفة"، اللذان أصبحا من النجوم البارزة بعالم الفن في لبنان. وكان من أستاذتها الرسام الإيطالي "فرناندو مانيتي" والفرنسي "جورج سير"؛ وكلاهما شخصية بارزة ساهمت بتطور الفن الحديث في لبنان. كما هو حال العديد من الفنانين اللبنانيين المتميزين خلال القرن الماضي؛ أمضت "الأشقر" سنواتٍ تكوينية في باريس خلال العقد الذي أعقب الحرب العالمية الثانية.. يوم كانت باريس تعج  بالفنانين المهاجرين من جنوب العالم؛ ممن أخذوا فيما بعد مدارس وأساليب مختلفة من التجريد إلى أوطانهم؛ ودشّنوا تقاليد هجينة ثرية يصعب في كثير من الحالات تتبُّع أصولها حتى المصدر. بالفعل؛ يصعب تدوين التاريخ السياسي للفن التجريدي في العالم العربي. فالعديد من التفسيرات الجزئية للتجريد انبثقت تحت تأثير "حركات" القومية العربية؛ داعية إلى نوع من الفهم القومي الذي يستقي من كل شيء؛ من الفن الاسلامي إلى الايقونات البيزنطية حتى الرياضيات العربية في العصور الوسطى. لكن تلك التفسيرات "ومع انها تعارض بحق وجهة النظر الأوروبية التقليدية التي ترى أن كل التجريد يأتي من الغرب"؛ لكنها تعمل تحت ظل سوء فهم "يخلط" بين الرسم التجريدي كحركة فنية حديثة وبين التجريد في أي شكل من أشكال الفن التمثيلي.. أي: التجريد كعملية ثقافية وأنثروبولوجية عبر التاريخ؛ تمتد منذ فن ما قبل التاريخ في العصر الجليدي؛ عندما اكتشف الإنسان الحديث المبكر أشكالا رمزية.. هذا التجريد بمفهومه الأخير لم يجرِ ابتكاره في أوروبا القرن العشرين، كما أنه لم ينبثق من العصر الذهبي للفن الاسلامي.. وبمعنى آخر؛ فان الجدلية حول متى ظهر الفن التجريدي حقا تُخطئ في الموضوع؛ لأن التجريد ليس فترة تاريخية بعينها، بل عملية مستمرة.
ومع ذلك، فإن أيقونية الفن الحديث شجعت التفسيرات الأوروبية والقومية العربية والوطنية. وحينما عاد بعض الفنانين اللبنانيين من المتأثرين بشدة بالتكعيبيين إلى وطنهم؛ طوروا تفسيرات جديدة للتقاليد الاقليمية، على عكس القوالب الأوروبية.
ولكن ذلك التبسيط لم يكن ممكنا في حالة الأشقر؛ لذا رسمت بأسلوب التكعيبية لفترة قصيرة، قبل أن تنتقل إلى تطوير أسلوبها الشخصي للغاية في سبعينات القرن الماضي؛ وهو اسلوب تميّز بشرائط طويلة وغير منتظمة من الألوان النابضة بالحياة على طريقة التعبيرية الأوروبية؛ ولكن ضمن جو تصويري أقرب إلى لوحات حقل الألوان الأمريكية. كانت لوحات الأشقر الناضجة محاولة لتطبيق التكعيبية التركيبية على حقول لونية مفككة بالفعل؛ وعن ذلك قالت عام 1989؛ بطريقتها الغامضة المعتادة: "إنها مثل طبقات من الورق الموضوعة فوق بعضها البعض كمياً، وعليك تمزيقها واحدة تلو الأخرى للوصول إلى الأساس الذي هو الذات". ومضت تقول؛ ربما كإشارة إلى اخلاصها للتكعيبية التركيبية: "قم بإزالة كل ما هو سطحي للوصول إلى المركز، وسيكون المركز مرة أخرى كمفهوم الدائرة؛ أي- الحياة.. والخوف سيقول إنه الموت."
على الرغم من غموضه القاتم؛ كان عمل "الأشقر" رواية لا هوادة فيها وسرد طويل لمصير لبنان المأساوي. عاشت "الأشقر" في لبنان طيلة سنوات الحرب الأهلية القاسية، واستمرت بالرسم. وفي ثمانينيات القرن الماضي تحولت ألوانها الباستيلية الايقونية إلى حمراء كامدة وسوداء، تحيط بفراغٍ مخيف. أثناء مقابلة معها في بيروت عام 2018، وصفت الأشقر الرسم بأنه "لحظة لذيذة؛ حينما تكون وحيدا تستمع إلى نفسك". ورغم صمتها وتجاهلها من قبل الكثيرين في عالم الفن؛ كان لا يزال لدى الأشقر الكثير لتقوله عن الفن والقرن العشرين المضطرب.. يجدر بفنها أن يُخاطب المستقبل؛ ليكون تذكارا لأوقات مضطربة وملئية بالشكوك.. كأوقاتنا الآن.  
و"آري أمايا أكرمانز" كاتب وناقد فني وباحث مستقل مقيم في إيطاليا. يركز عمله على تاريخ علم الآثار والفن المعاصر وسياسات الذاكرة في الشرق الأوسط.

عن موقع {دون}