الأنموذج وارتحالاته

ثقافة 2024/07/22
...

  ياسين طه حافظ

فيما نكتبه او نقرأه مما يُكتب اليوم من فنون الأدب، تضعنا أمثلة لمستويين من الكتابة المسماة بـ {العليا}، أو الإبداعية.. نوع مسترسل من سياق الكتابات الأدبية العامة، وما يخلو عادة من {مقصدية} الجديد في الإنتاج. وهذا لا يسعى لصناعة أنموذج.
نوع الكتابة الآخر، يتضمن فعلاً تجاوزياً على المألوف، يتوسل بتنظيمة فكرية ولسانية، يحاول فيها الكاتب تجاوز مطلق الماهية الثقافية إلى خصوصية الانتماء، وأن يمتلك من الفكرة وتنظيماتها التعبيرية القادمة لينتج انموذجاً خاصاً، انموذجه هو، والذي يعنيه هو وقد تلبس فكرته والخصب الثقافي وراءها. فيكون قد أنتج لغة وفكرة وجواً ثقافياً بتأليفة جديدة لم نعهدها من قبل وإن اقتربنا في بعض الشبه لغيرها. لكنها جديدة، وانها خاصة مطبوعة بمذاق فرديته.
ولإيضاح التفرد في العقل المنتج نشير إلى أننا نقرأ شعراً كثيراً لا نبالي به، أو هو لا يترك انطباعاً في ذاكرتنا الثقافية المتخصصة. ونقرأ شعراً آخر نحتفي به بثناء واضح، ونرغب بالاحتفاظ به وحتى تملكه. الأول ضمن السياقات المقولة والمتكررة أو المماثلة أو شبه السائدة. وتجديد كتابته وإخراجه أو الاسهام في اعادة رسمه لغوياً، لم يكن لصناعة خاصة، تتحقق قدر ما تتحقق المحاكاة وإن بسلامة شكلية ولطفٍ. تنفيذ المطلب الفني حتى الآن لا حضور له. نحن نمارس، وقد نتقن، رسم ما كان، لكن لم نأت بأنموذج. السائد في الفن ليس مطلباً. المطلب هو الجديد النادر بامتيازه، والذي نسميه الانموذج.
وهنا لابد من الأنموذج، من ابتداعه لتميّز الابداع أو لتمثله أو تقليده. محاكاة الجديد أمر يكاد يكون مبدأ عملٍ للكثيرين. هنا يكون مستوى العمل الفني قد صار في مرحلتين، ابداعي ومحاكاتي مماثل.
موضوعنا، أو همّنا الآن هو: هل تستطيع – ولو في محاولة- تأكيد مبادئ، خطوط أساسية أولى، لما يسمى بالكتابات الأدبية المتفوقة؟ هل نمتلك أسساً لما يسمى بـ "الأنموذج" وهل الأنموذج، الدالة الوحيدة للتفوّق إذا سلمنا بأنه دالة للتميّز؟
نريد نقاطاً اساسية مقنعة وعلمية. ثمة استدراك قبل مواصلة البحث والتساؤلات: ألا تنتج الأجواء المتشابهة سمات مشتركة؟ هل هذا يثلم من هيبة ومكانة الأنموذج؟ هل يضعف من دوره الاستكشافي في حركة التقدم الفني أو التجديد؟
عموماً نحن ومن زمن ندور بين ما يعجبنا وما لا يعجبنا. والمبتدع الجديد، بصورته الانموذجية محطة صغيرة مضيئة ليست متاحة للجميع. ما توحيه لنا، وكل ما نعرفه من ضوئها، إن كل تفوق خاص. وكل تجديد أمتلك خصوصية مبدعة. والأنموذج غير جديد إذا لم يكن من غير السائد، ولم يكن بناء التعبير متميزاً وغير ما الفنا من سياقات تعبيرية، ولم يكن بمذاق شخصي- مذاق مٍلكية خاصة- ولم يكن تماسك الفكرة الشكلي قوياً والقدرة التنظيمية التي تتخلل العمل، فكراً مشاعرَ ومفردات لغة، تنزع لأن تكون حواضن جمالية لمعنى آتِ، أو معان تتوإلى، أو لأن لا تكون مادة طقوسية جديدة، مخاطبات مشروع، تنتج، كما المقطوعة الموسيقية أداءً فنياً جديداً، اداءً متفرداً يمارسه الفنان الكاتب وحده وقد أحس به أولاً وحده. ومجموعة العناصر هذه تعمل وتتشكل باستمرارية العمل يقودها المكوّن الذاتي.
هنا الذاتي يعمل بقوة مستخلَصة من تاريخ أدبي يحتاجه وهو من ملكيات المنتج ومعاونه وحيوية الفعل الثقافي العام في مصنعه.
فاعلية هذا المكون الذاتي الفكري- الفني الثقافي تستمر على توهجها حتى البشرى بحضور الانموذج.
حتى الآن نحن نفترض ونحاول تبسيط هذا المزدحم الإشكالي، لأننا لا نريد أن تظل المشكلات مطروحة بلا تفسير أو حل. وقناعتنا الأخيرة مما ذكرناه حتى الآن هي أن المتفوق جديد حتماً، وأن المكرر قد يكون متقَناً ولكنه يظل ضمن السائد، يظل انتماؤه إلى المتخلف، إلى القديم بشهادة أن الفن المتخلف في القرون الوسطى هو المستنسخ من أدب وفن وثقافة روما.. تخلف أي فن وأي أدب من ثبات مصدريته وديمومتها الراكدة. حسناً، الصناعة الفنية، عملية الابتكار، تشحن الفكرة التنظيمية، لتزيد طاقتها في التأسيس والإكمال والإنجاز فالحضور المبهج للأنموذج.
والآن حضر الانموذج تمّ خلقه، فمن يستطيع حمايته؟ كل كاتب كل فنان يريد أن يزهو بجديد، يريد أن يقدم إبداعاً والأنموذج في العالم، ليس له من يحميه بعد غياب مبدعه. فسرعان ما يجده أديب غير مبتكر فيلتقفه، ومبكراً يوظفه، ويخضع فكرته التنظيمية، لتكون في غمار مستجداته.
وهنا انكسار بادرة التقدم، وبدء الفن الزائف أو ما يسمى بافتقاد الاصالة.
لا أدري من قال "لا عذراء في باريس"، لكني أقول لا فكرة جديدة، ولا انموذج ينجوان من التبني أو المحاكاة والتقليد. وصعب جداً ايقاف أو منع استغلال الأفكار بتوظيفها في أجواء كتابية أخرى. سنراها اليوم أو غداً أو بعده وقد انتقلت إلى مكان آخر وزمان متملِك آخر، وصار لها "متملّك" لم يكن أحد يعرفه حين ظهرت أول مرة. نحن اليوم نجد أفكاراً قديمة في أحدث النصوص، نجد نماذج قديمة من قلاع وممالك شكسبير. ونجد من شكسبير لدى إليوت ونجد من اليوت عند آخرين.. وما في الكتب المقدسة ما يغني عن مزيد من الأمثلة.. ثمة عذر أن الأجواء الأدبية المتشابهة قد توجد مماثلة بين الانموذج و"مثيله". المهم أننا نجد في هذه الطاقة التوليدية صفة المطاوعة والتنقل مع الفرِحين بوجودها أو مع المعجبين.