اللغة التراجيديَّة في النصّ المسرحيّ الشعريّ
د. علاء كريم
يتحقق التواصل بين الحضارات عبر الأعمال الإبداعية التي تمثل الأدوات المعرفية، وتطرح رؤى فكرية تعتمد على التلقي والتواصل، فجميع ثقافات العالم تأخذ بعض موادها من حدث أو موقف وأفكار وتجارب، لتتلاقى بعوالم روحية تكشف طبيعة الجذر الإنساني الذي يتجاوز الحدود الاقليمية عبر رؤى فكرية ثقافية بعيدة عن تباين الجنس واللغة.
يحتل الأدب المسرحي مكانة مهمة في حياة الشعوب، لما يمتلكه من فاعلية مؤثرة تجسد الاتجاهات المعرفية والجمالية في واقع الفرد، خصوصاً عندما يكون بمتناول المتلقي سواءً على صعيد القراءة أم المشاهدة الحية له. وفي هذا الجانب جسدت النصوص المسرحية، ومنها الشعرية "واقعة الطف" على الصعيدين الفكري والفني. فعلى الصعيد الفكري وظفت تلك النصوص القيمة التعبيرية، أما على الصعيد الفني فقد رسمت صورا متعددة أظهرت ممكنات الرؤية الفنية وتحولاتها.
وهذا ما اعتمده المسرحيون في كل العالم، وخاصة في نصوص تجسد الملاحم والقصص عبر أزمنة مختلفة فأسسوا بذلك مسرحهم، الذي أصبح مادة إنسانية فنية جدلية، يمكن عبرها استقراء مجموعة قيم ومفاهيم تعمل على اثبات هوية الشعوب، وأيضا لتغيير عادات وتقاليد المجتمعات. وعليه، حاول كتاب النص المسرحي التاريخي اكتشاف طبيعة الطقوس في المنطقة العربية وأثرها على بيئة الشعوب ونمط حياتهم.
في العراق وبعض البلدان الأخرى، كان لـ "واقعة الطف" أثر نفسي وعاطفي على المجتمع، لما تحمله من قيم ومواقف أثرت في الجانب الحياتي للإنسان، كما أن طقوس هذه الواقعة استطاعت أن تحرك مشاعر هذه المجتمعات لعشرة أيام من كل عام في شهر محرم عبر اللغة التراجيدية البصرية وممكنات توظيفها في مسرح التعزية.
ففي "الحسين شهيداً": جسد النص المسرحي العربي الشعري لعبد الرحمن الشرقاوي، الواقعية التي تتلاقى مع أفكار فرضت منهجاً مغايراً لرسم الشخصيات والصراع الدرامي والحوار والمونولوج. إذ حاول الشرقاوي اعتماد المعالجات عبر عناصر درامية استلهمها من مسرح التعزية أو عبر طبيعة الصراع الدرامي وتعدد الأصوات، وأيضا الإحساس بالشخصيات والدخول إلى أعماقها.
تميزت اللغة في نص "الحسين شهيداً" بحوارات متقاربة مع اللغة الشعرية الصوفية الكلاسيكية، فضلاً عن ملامستها لصراعات داخلية وبما يتناسب مع مضمون الحدث. بمعنى أن المؤلف جعل الصراع قائما ومتصاعدا بين الشخصيات وخاصة في الجانب النفسي، وهذا يبين طبيعة الشخصيات تجاه الأحداث.
رسم الشرقاوي بعض الحوارات التي تدعو إلى الثورة والتحريض والتمرد، إي تقوم الفكرة في "الحسين شهيداً" على التضحية غاية الحرية، أو الموت في سبيل شرف الكلمة. وقد أراد بوساطتها الافصاح عن واقع سياسي كانت تعيش مصر خلال الفترة التي أصدر الشرقاوي مسرحيته أي بعد نكسة 1967. وبناءً عليه، فإن عملية العزاء الحسيني اتخذت أهدافاً سياسية أكثر منها دينية، وأيضا العزاء الحسيني في النص المسرحي اعتمد الشعرية التي تميزت بها المراثي وما تثيره من شجون على استشهاد الإمام الحسين"ع".
كما قدم الشرقاوي مشاهد حية عن مقاومة الظلم، وكشف الواقع المتردي الذي كانت تعيشه مصر حينها. المسرحية من حيث الشكل تسجيلية بكل مواصفاتها، وفي مضمونها صورة لزمن كثر فيه الظلم والجور، وترمز لمعاناة الإنسان في إيجاد الحق والعدل والاستشهاد دونهما. وهذا ما أكده الشرقاوي لمعاناة الإنسان في كل الأزمنة والأمكنة، وطبيعة النفس التي تسعى لتحقيق أطماعها المادية بعيداً عن الفعل الإنساني، وأيضا تظهر ملامحها القبيحة بعيداً عن فعل الخير. وهذا ما تجسد في حوار شخصية الإمام الحسين.
قال الحسين: "عهد عليّ إلى أبي وإلى النبي لن أخونه، ألا أنام عن المظالم، وأن أنصر العدل المطارد، وأن أحمي الضعفاء من بطش العتاة الأقوياء، وأن أفصح الزيف المهين، واتحصن بالعروش، واسحق الكذب المعربد. فإذا أبيتم أن تموتوا في الكرامة والإباء، ورضيتم عيش الذليل المستضام، فالله فيكم، رب فاحبس عنهمم قطر السماء". كما قال: "أنا الشهيد هنا على طول الزمان، أنا الشهيد فلتنصبوا جسد الشهيد هناك في وسط العراء ليكون رمزاً دامياً للموت من أجل الحقيقة والعدالة والإباء، قطراته الحمراء تسرح فوق أطباق السحب، كي تصبغ الأفق الملبد بالعداء ببعض ألوان الإخاء، من قلبي الدامي ستشرق روعة الفجر الجديد، من حر أكباد العطاش سينبع الزمن السعيد، طوبي لمن يعطي الحياة لقيمة أغلى عليه من الحياة،
طوبي لأبناء الحقيقة أدركوا أن الإباء هو الطريق إلي النجاة.. وتذكروني دائما".
أما النص المسرحي الشعري (الحُر الرياحي): فقد حاول الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد في النص الذي قدمه جبرا ابراهيم جبرا، أن يمزج ما بين العناصر التاريخية والرؤى المعاصرة عبر مغايرة الواقع، واستعادة ذاكرة تحمل ايديولوجيا الصراع القائم في أغلب المجتمعات، وحاول عبرها ترسيخ أفعال مثل المبدأ والعقيدة والأيمان، وما ينتج من ردود فعل للموقف.
وبما أن النص المسرحي يجسد الحدث قبل وقوعه أو بعده، حاول المؤلف أن يوظف معنى الحدث التاريخي بعيداً عن الاعتماد على التاريخ فقط، لذا رسم الشخصيات بالاعتماد على المواجهة بين الحــُر وضميره، وبين الشمر وضميره، لتكون هذه المواجهة الفعل الحقيقي للمسرحية. وفي هذا الجانب ترك للمخرج مساحة لتوظيف رؤيته التطبيقية على نص شعري يمكنه من أن يحرك داخله أصوات وأخيلة، وأن يعرض صورا على الشاشة كما في السينما، ويركبها مع أصوات يصورها المؤلف، لينقلنا إلى سيناريو درامي يتضمن الشخصيات والحدث وفعل الصراع. وهنا قد يجمع أكثر من معنى، ويبقى الأهم هو المعنى التاريخي والمعاصر والحدث الديني بنمط معاصر، مثال لذلك: "الحــُر.. ها هي الشمس تنهضُ/ والناس تنهضُ/ والكلمات القليلة تنهض/ تنهض أحرفها كالعماليقِ عمياء مجنونة/ تتخبط بين حناياك/ أيُّ الطريقين أوضح".
هنا أعطى الشاعر صورة للحدث الدرامي الشعري، ليؤكد عبره على الحوار الشعري الرئيسي للحدث، وأيضا ليميز معنى نص يبُني على الوصف باعتباره شكلا معبراً عن الآخر. كما في الحوار الآتي: "الحــُر.. يا نهار العواصف والرُّجم المستحيلة/ أيّ نبوءاتك اليطمأنّ إلى صديقها الآن/ أقسمُ لو اني صيرتُ الصحراء بأجمعها ماء/ وطغى الموجُ فغطــّاك إلى الأذنين/ لا طبقت شفاهك في جوف اللجة/ حتى تقضي عطشا .. وأن تقول لن نقاتل الحسين".
هنا جسد المؤلف لحظة البناء الدرامي عبر استحضار التراث، ودمجه بالزمن المعاصر، كما في صوت الهاتف المليء بالرهبة، والذي يأتي من المجهول، "ســيُـقتل الحسين/ وسوف تبقى هذه العلامةْ/ كل السيوف الوالغات في دمهْ/ كل الرمال الشاربات من دمهْ/ قانية تبقى إلى القيامةْ".
ينزاح الترميز النصي في مسرحية "الحُر الرياحي" إلى طبيعة الانتماءات، وإلى فعل الخلاص في وقت لا خلاص فيه، فضلاً عن سعي الشاعر إلى كشف الجوانب الشعرية والمسرحية والدرامية، ومن ثم اعتماد البنية الشعرية المسرحية بشرط أن يتحقق التجانس بينهما. يبقى هذا النص شموليا ينزاح للمسرحية أو الدراما وحتى القصيدة، تتعدد فيه المسميات، لكنه اخيراً يشكل نوعا من الأنواع الفنية. وقد قدمت مسرحية "الحُر الرياحي" على خشبة المسرح الوطني في مهرجان المسرح العربي الرابع عام 1994، إخراج كريم رشيد.
أما النص المسرحي الشعري "ثانية يجيء الحسين": فقد اعتمد الشاعر الراحل محمد علي الخفاجي في النص الذي بدأ في كتابته عام 1967 وانتهى منه عام 1968، على فاعلية الصراع، لما يمتلكه من قيمة وظيفية وجمالية وتعبيرية وفنية، وايضا لأنه من المرتكزات الفكرية التي تنفتح على فضاءات واقعية ليست لها نهاية. اختير في هذا النص فعل "الصراع" كونه يمثل مرتكزاً لا يمكن تجاوزه، وأيضا لأنه يشكل عنصراً فاعلاً في عملية التفسير والتأويل لرؤية المؤلف بوصفها قيمة أدبية. كما يشكل الصراع دافعا لإثبات النفس، سواء للفرد أمام ذاته أو عند الآخرين. فقد ذهب "الاردس نيكول" وهو ممثل ومدرس وناقد أدبى، إلى عد الصراع من "أهم اجزاء المسرحية"، وهو جوهر البناء المسرحي. لذا يعد المؤلف المسرحي المتفرد هو من يجعل المتلقي يعيش أجواء صراع المسرحية ويتفاعل معه.
في "ثانية يجيء الحسين" اعتمد الخفاجي على صراع داخلي يتمثل في المعاناة الشخصية، وفي الذات الإنسانية المتمثلة بصراع الفرد مع نفسه، وصراع العقل مع العاطفة، أو الصراع بين العقل الباطن والعقل الواعي. لذا أكد الخفاجي على الصراع الداخلي الذي ينتج لنا كل الصراعات، ليبدأ في رسم صورة الصراع الداخلي عبر حوار جريء بين الامام الحسين وأخيه محمد بن الحنفية، محمد "بيأس عصبي": " وَجِنود الشّام/ الحُسَين: مَاذَا..؟!/ مُحَمّد: لِجِنودِ الشّامِ قِلوب النّساء/ الحسين: وَلِلأنْصارِ قِلوبِ الشّهداء (لحظة صمت)/ آه... أي رُؤى تِلك، تَتَعمّد فِيهَا الصّحوة/ فَتُضيف عَلى شَرفِ المَسْعى/ يَصْرخ فِي ذَاتِي صَوتٌ/ فَيكُون لَه صَوتِي كَصَدَاه".
تمكن الشاعر في هذا المشهد من استنطاق الشخصيات وتنويعها بما يلامس طبيعة الحدث ونمط الشخصيات وبناء عقدة من خلالها يدخل الصراع المتمثل برؤى حددت بشخصية الإمام الحسين "ع"، وما عكسته من أفعال كفعل الصراخ في ذاته، الذي مثل صوت وعاطفة قد يصطدما أحياناً بالعقل، أي الفكر الذي يهدي إلى الرشاد عبر الضمير والتضحية. رغم أن لكل صوت صدى ينعكس على العقل، كما في الحوار الآتي: "انْظُر مَظْلومِي الأمه/ وَكأنّ جِلْدي يَتَوزَعُ بَينَ سِياطِ الجَلادِين/ هَا أنَا ذَا أهبطُ فَوَق صُعودِي/ انّي أبْغِي الكُوفَة".
وهنا يؤكد على مواقف ضمنية، كانت كفيلة بأن يرتقي الصراع إلى شيء من توتر يساعد على إعطاء فاعلية واستمرارية للقارئ بأن يهتم بما تقدمه شخصية الحسين من حزن وقلق وغضب وتوتر، أي بعد مغادرته مدينة جده رسول الله، متوجهاً إلى الكوفة حاملاً معه أفكار مستترة مجهولة، تمثل رؤاه الداخلية القريبة إلى الحلم، كما تجسد ذلك في موقف آخر، يحاكي صراع الشخصية عبر الفعل المستتر، "محمد "بيأس عصبي": أنَا لا أنْصَح بِالسّير إلى الكُوفَة/ الحُسَين: وَأنَا أخْتَار السّير اليهَا/ فالوعد الآتي منها/ أقْرعُ فِي الرأسِ البابَ/ اطلق عقلاً يعقله ويعذب رؤيا.. (الصمت)/ اغسلُ عنْ لَوثتهِم صَدأ الخَوف/ افتح في رَمضَاء امانيهم/ فالوعْدُ الاتي من غبشِ الكُوفَة/ يشرقُ شمساً ويد في الارضِ سيوفاً".
بين الخفاجي في هذا النص مخرجات تلامس دوافع الصراع مع الذات المتوترة، وتتحاشى العقل والمنطق عبر الصراع النفسي الوجداني. أيضا رسم لغته برؤية ثورية تحمل نوعاً من الفهم البيئي لواقعنا، وتكشف إشكاليات واقعنا الحياتي وعاداته وتقاليده.
يحمل هذا الأسلوب الأدبي بين متنه الصراع الدرامي الموازي للصراع الإنساني من أجل الوجود، فشخصية الإمام الحسين "ع"، كشفت شكل التصادم الداخلي عند الناس، فهو يرفض الجلوس في المسجد لمجرد النصح، لأنه عمل غير مجّد، فكيف يختار الصمت على الحقيقة. هذا تعبير عن التناقضات الموجودة في حياة الناس، والتأثر بالآمال والعواطف المتصارعة. لتبقى أخيراً شخصية البطل صوت يخرج من عمق الذاكرة، صوت يزيل التوتر والترقب، الذي يسعى من منع الحسين "ع" الرحيل إلى الكوفة.