مبارك حسني
أن تستمر سينما المؤلف الإيرانية في حصد الجوائز والتنويهات، فهذا أمر صار مألوفاً وعادياً، منذ عقود، لكن الذي يهم في العمق، هو ما تثيره من نقاش كبير حول إيران، كبلد، وخاصة كنظام سياسي، وغالباً ما يكون ذلك في إطار نقاش عام أكبر وأشمل، يخص المقاربة السينمائية الخاصة بها المجددة للخطاب السينمائي. ويخص أيضاً كيف {تظهر وتتجلى} السينما كتعبير وكتصور مثيرين للعاطفة وللفكر معا، كانعكاس لتصور المخرج المبدع، الذي له رؤية شخصية للعالم والانسان.
هي من تحدد اختيارات مواضيعه، وطرق اشتغاله الفني في مضمار الفن السابع، كسينما مؤلف أصلاً.
وشريط "بذور التين المقدس" لمحمد رسولوف، لم يحد عن القاعدة، إذ طغى النقاش في الصحافة الفرنسية المتخصصة، عن الطابع السياسي لموضوعه، والموسوم بمواقف سياسية غربية معروفة، كما على المسار "النضالي" للمخرج، الذي لا يتحرج في ممارسة السينما بما هي وسيلة للشهادة والتسجيل والتوضيح، سياسيا ومجتمعيا وثقافيا، وأداء ضريبة ذلك من حياته وهنائه.
وتكفي قراءة ملخص الفيلم للتأكد من ذلك. حيث نرى محامياً تمت ترقيته، فتكفل بمهمة قاضي تحقيق في المحكمة الثورية، التي تصدر الأحكام السالبة للحرية وللحياة أحياناً، وهو ما سمح لزوجته وابنتيه بالانتقال إلى الشقة ذات الأربع غرف التي طالما رغبن فيها. هذا في الوقت الذي بدأت فيه حركة احتجاجية شعبية ضخمة في البلاد. يؤدي مهامه الصعبة، لكن الصراع المجتمعي ما لبث أن انتقل إلى منزله وأسرته، بين ابنتيه من جهة وزوجته من جهة أخرى. في خضم ذلك، يختفي سلاحه الوظيفي. نحصل هنا على موتيف سينمائي يؤسس للحبكة الواجبة. وهكذا يحضر الفعل السينمائي، وتتم مساءلته. وهذا هو الأهم، في آخر المطاف.
الذروة الدراميَّة
صحيفة "لوبوان" ترى بأن الفيلم هو "مأساة أسرية ممزوجة بالإثارة، غير مدفوعة فقط بقوة أفكارها: بل أيضًا بقوة إخراجها"، وتعده بأنه فيلم "يحمل غضباً وحماساً مُعدياً. ويقدم أفكاراً سينمائية رائعة (فالمطاردة بالسيارات تتفوق على بعض محاولات هوليوود المتواضعة)، ويربطنا بفريقه المدهش بشجاعته (تم تصوير الفيلم بأكمله في السرية)، وفي النهاية، يستدعي تصفيقنا الحار بسهولة، فيلم عظيم"
صحيفة "بوليتيس" رأت بان " كل شيء في فيلم محمد رسولوف له معنى: إخراج متقن يتم غالباً في أماكن مغلقة (الشقة العائلية على وجه الخصوص)، ما يعد استعارة لمجتمع تحت السيطرة؛ الاستخدام المتكرر لمقاطع الفيديو التي يتم تصويرها من قبل أشخاص مجهولين، والتي تُظهر عنف قوات الأمن، ما يدخل الواقع الخام إلى الفيلم؛ الصراعات على التحكم في الهواتف المحمولة، كأداة للحرية أو للسيطرة على الآخر، هو محكم تماماً من البداية إلى النهاية، ويزداد توتراً باستمرار، حتى يصل إلى ذروته الدرامية. محمد رسولوف يقدم عملاً رائعاً وقاسياً، حيث تتناسب القيمة الجمالية مع الأهمية السياسية."
(عدد 25 / 5 / 2024).
مجلة "بروميير" السينمائية ألقت الضوء على أن قوة الفعل السينمائي البديهية بألق في الشريط " لا تأتي فقط من السياق الخاص المحيط بالفيلم، ولا من موضوعه، بل من القوة الفنية التي يتميز بها من خلال إخراج قاس وسيناريو يتفحص الشخصيات بدقة مذهلة. فبينما يبدو التوجه السياسي لرسولوف واضحاً، يسعى إلى فهم ما يدفع شخصياته حتى النهاية". هنا تتجلى قوة الفعل السينمائي، في تلك العلاقة مع الشخصيات كحاملة كل واحدة على حدة، على حقيقة ما تصارع الحقائق الأخرى. وهو عين ما كتبته صحيفة لومانيتي حيث الإخراج يظهر تطورا دراميا : "شيئًا فشيئًا، ومع تزعزع الشخصيات بالأحداث التي تؤثر فيها، فتتخلص من قشرتها الاجتماعية، وتظهر وجهها الحقيقي. وجه الرغبة في التحرر للبنات، وجه الحقيقة الذي يمس الأم، ووجه الرعب للأب الأعمى، الذي يعامل أسرته كما يفعل مع السجناء الذين يقعون عادةً بين يديه. يتميز الممثلون بدقة أداء لا تُصدق، إن تقطيع المشاهد الذي أراده محمد رسولوف وابتكاره في التصوير يعطي هذا الفيلم إيقاعًا متماشيًا مع الموضوع" (عدد 24/05/2024).
أما المجلة السينمائية "دفاتر السينما" في عددها الشهري لمايس الماضي، فقد عدت منح جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان كان الأخير لفتة سياسية " عدها البعض هدية مسمومة، ويمكن تفسيرها على أنها اختزال للفيلم في موضوعه" السياسي لا غير، كعمل تم اخراجه في السرية ووسط المخاطر. ولأن به جرأة، من خلال تصوير أم وبناتها وجهاً لوجه في شقتهم في طهران من دون حجاب، لعدم وجود سبب يذكر للاحتفاظ به، بينما في الأفلام التي سمح بها من قبل، ترتديه الممثلات في جميع الظروف.
وهكذا، يمكن اعتبار الفيلم محمد رسولوف، الفيلم الذي تم تناوله من حيث قيمته الفنية السينمائية وأيضاً من حيث حمولته السياسية المباشرة. وهو أمر نادراً ما يحدث.