قصص قصيرة جداً

ثقافة 2024/07/23
...

   باقر صاحب  


مَكبوس

لا أكادُ أجزمُ بأنَّ الرؤيا في المنام تتغيَّر مجرياتها وتفاسيرها حسب المكان، ففي  بيتٍ قديمٍ البناء، صغيرِ المساحة، لا يكفي عائلتنا بتاتاً، كانت أحلامي ورديَّة، عجبي أن يتكرّرَ فيها أنَّنا نسكن  بيتاً جديداً كبيراً، فبالإضافة إلى غرفة النوم، لديَّ غرفةُ مكتب، سأصبح بتواجدي المُنتظم فيها مؤدّياً لطقوس الكاتب المحترف . 

تحقَّق الحلم، وانتقلنا إلى بيتٍ جديد. كان أول ما تبادرَ في ذهني حين أغفو غفوتي الأولى في هذا البيت، أن أحلامي الملوَّنة، هنا، ستحلِّقُ بي إلى روضةٍ خضراء، روضةِ مزهرةٍ بأجمل أنواع الورود، ومثمرة بأطيب أنواع الفواكه والخضراوات. وفيها بيتٌ ذو تصميمٍ معماريٍ باذخ، تتوّفر داخلهُ كلُّ وسائل الراحة. 

ما حدثَ أنَّني كلَّما غفوتُ في مقامي الجديد، يزورني كابوسٌ لعين، فأفزّ من نومي مذعوراً، غرفة نومي الواسعةُ بدأت تتصاغرُ.. تتصاغر، حتى أصبح حجمها بحجم جسدي، وفراشي الوثير تحوَّلَ إلى ..

لا أستطيع نطقها لأنَّ الكابوسَ هجمَّ عليَّ من جديد، فأصبحتُ فاقدَ القدرةِ على كلِّ شيء. ثمّةَ صوتٌ يجاورني: لا تحلم باتّساع، لا تطمعْ كثيراً، الطيُّبون واقعهم مزرٍ، هو خيّاطُ أحلامهم وكوابيسهم .  


عينُ الموت

 لا أحدَ يعرفُ ماذا كانِ في خلدِ ممثّلنا الراحل، وهو يؤدّي دورهُ أمام الكاميرا، كان يتحدَّثُ عن الموت مع ممثلٍ آخر، كان يسألهُ، عينٌ عليه، وعينٌ على الكاميرا، (ماذا رأيت في الموت؟)، إذ ذاك ما الذي أوحى له بأن عينَ الكاميرا هي عينُ الموت، وكأنها تتحدّى كلماته، وبأنها ستنقضُّ عليه، فسقطَ على الأرضِ جثةً

هامدة !


تشييع نهر

كان شديدَ الرغبةِ في تعلّم السّباحة، ودَّ لو تعلَّمها منذ الصِّغر، والآن، وقد مضى به قطارُ العمر إلى مشارفَ الكهولة، أدركَ أنَّ فرصةَ عبوره نهرَ الفرات في مدينتهِ عوماً، قد غادرتهُ إلى غير رجعة، مردِّداً  مقولة.. إنَّ التعلمَ في الصغر كالنقشِ في الحَجر. 

هواهُ كبيرٌ  في ممارسةِ السباحة، رغبةً في فكِّ أسارِ يومياته من روتينها القاتل، فالعومُ في نهرٍ جارٍ يمنحهُ الطاقةُ على التجدُّد، فكلُّ دقيقةِ عومٍ هي غسيلُ مللهِ وكآبتهِ في مياهٍ جديدة، غير مياهِ الدقيقة السابقة، فقد قالَ الفيلسوف أوغستين؛ إنّك لا تنزلُ النّهرَ مرَّتين.

في يومٍ غارب، مشى في شوارعَ خاوية، إلى النهر، الذي طالما حلمَ في السباحة به، صاحَ ضاحكاً: تحقَّق حُلمي في عبور النهر بعد عشرات السنين. 

لكنَّها ضحكةٌ دامعة، فقد عبرَ النهرَ مشياً، كما السائرُ في جنازةِ نهرٍ كبير، تحملُها ما لا يُعَدُّ من 

أذرعِ الحالمينَ بسباحتهِ يوماً!  


بابٌ ونافذة

كانَ يحلمُ بها دائماً، تزورُه في بيتها القديم، وليس بيتاً آخر، كانت لا تعاتبهُ على عدم زيارتهِ لها في مكانها الجديد، بل تتواشجُ تفاصيل الزيارة مع أمورٍ حياتيَّةٍ شتّى، كأنَّ وحشةَ هذا المكان لا تُشغلُها كثيراً.. ويخجلُ من تلقاءِ ذاتهِ إزاءَ عدم زيارتها هناك. فقط مرَّةً واحدة.. لم تتكرَّرْ.. عتبٌ دفينٌ في داخله يتولّد، عندما يستيقظُ متذّكراً تفاصيلَ ضبابيَّةً عن تلك الأحلام.

لكنَّهُ في أعماق ذاته يتمنّى ألاّ يحلمَ أنَّهُ زائرُها المتوَّحدُ في ذلك المكانِ الموحشِ المعتم، ففي حالتها زائرةً لبيتها القديم، تتحرَّكُ بحيويَّة، رغمَ كبرِ سنِّها وجلالةِ قدرِها لدى الجميع. واعتادَ رؤيتها تمارس ما ألفَ منها من أعمالِ البيت، من دون تحسّبٍ أنَّها سترحلُ إلى ذلك المكان 

الضيق.  لكنّهُ يخشى ألاّ يستطيعَ ممارسةَ أيِّ شيءٍ في مكانٍ تزدادُ توصيفاتهُ قتامةً وهموداً. قد يستطيعُ في الليلةِ الأولى أن يرسمَ باباً ونافذة.. ولكن في الثانية.. يشيّعهُ القلمُ والورقةُ من مدادِ وحشتهِ الهشَّةِ إلى العناوين الشاحبةِ لصحف الغد!