كاظم لفتة جبر
يرسم الإنسان صورة نمط حياته من خلال مجتمعة، ففي كل عصر يتجه إلى إنتاج نمط فكري يتلاءم مع متطلبات عصره، علما أن الحاجة والرغبة هما من يحددان متطلبات كل عصر، وعلى ضوء ذلك رسمت ملامح التفكير الإنساني .
ففي العصر الذي احتاج الإنسان إلى التفكير اللاهوتي، اخترع الدين البدائي، ولما احتاج إلى الاستقرار صلح الأرض وزرعها، وعندما احتاج الآلات اعتمد التفكير العلمي، ولما انتشرت التكنولوجيا عمد إلى الذكاء الاصطناعي، وعلى نفس النمط تطورت المشاعر كونها مرتبطة بعلمية التفكير، وأساسيات الحياة التي تتحكم في الأفراد.
وبعد مرور كل هذه التطورات ونجاح التفكير العلمي في نهضة أوروبا وانتشالها من غياهب العصور الوسطى أو المظلمة كما يصطلح بعض المفكرين على تسميتها، من سيطرة الفكر الكنسي، تجددت دعوات من قبل المفكرين العرب في السبعينيات من القرن المنصرم، على أهمية التفكير العلمي وضرورة اعتماده في المجتمعات العربية لغرض النهوض بها. ومن هؤلاء المفكرين دعوة زكي تجيب محمود في كتابة (التفكير العلمي) والذي يميز فيه بين تفكير العلماء الصرف، والمنهج العلمي الذي يدعو الفرد العربي إلى اعتماده في حياته اليومية، وتعامله مع الأفكار سواء كانت دينية أو سياسية أو اقتصادية. وما زالت هذه النوايا تتعالى في هذا الشأن من قبل العرب، فينبري عندنا السؤال عن مدى صلاحية هذا التفكير والمنهج العلمي، وهل هو يلائم كل مجتمع كونه نابعا من العقل؟
إن الاجابة عن أزمنة التفكير، راجع إلى صيرورة طبيعة كل عقل، فالعقل الاوروبي طبيعته مختلفة عن طبيعة العقل العربي، والسبب كما صرح به جماعة من الفلاسفة اليونان والمسلمين من قبل، في تأثير المناخ والبيئة، أو اختلاف الاعتقادات والثقافات، بينما أشارت جماعة أخرى من الفلاسفة في الفلسفات الحديثة، بأن لكل مجتمع أيديولوجية خاصة تدعم الجانب السلبي أو الايجابي من حضارتهم ودينهم ومستقبل ابنائهم، ناهيك عن تعدد الأفكار سواء كانت الدينية أو المدنية في البلد الواحد.. فعلاً أن كل فكر علمي يصلح لكل عقل كونه عقليا، لكن صورة العقل بين الشعوب مختلفة بسبب ظروف وعوامل مادية ومعنوية وسلطوية.
فالمنهج العلمي هو ليس بحثا في النظرية، بقدر ما هو نظام عمل للحياة اليومية، أي بمعنى سيادة مبدأ عقلانية الموضوعات من حيث أن لكل معلول علة، أو لكل سبب مسبب، بعيداً عن كل المعتقدات الرجعية والأفكار الايديولوجية.
تقاس مدى صلاحية الحياة عند الأفراد بظروفها، فالدول التي تصاب بعدوى الحروب والفساد يصاب مجتمعها. بمرض الفوضى، ويحاولون البحث عن الاطمئنان والاستقرار، وعن توفير لقمة العيش، أما الدول التي يعم فيها السلام مبدءا لها تعيش حالة من الاستقرار الذي يفسح لها المجال لتفهم طبيعتها ووضع نظام يلائمها. فالإنسان كائن مكون من نفس وجسد، فإذا استمد نظامه من العلم خسر مشاعره، وإذا عكسنا تلك المعادلة يفرض علينا خسران الاطمئنان النفسي والروحي، فالتكامل الإنساني يفرض علينا الجمع بين ما هو علمي وروحي، وهذا لا يتم إلا من خلال ذلك التفكير والشعور الغامض الذي يطلق عليه الفلاسفة وعلماء الجمال بالتفكير الجمالي، إذ أنه التفكير الوحيد الذي يجمع العلمي مع الروحي، والديني مع الهندسي، والجميل مع القبيح، والخير مع الشر. فالتركيبة الجمالية هي أعظم التركيبات التي يتصف فيها النظام بالمرونة، والتناسق بالفهم، والانسجام بالإحساس، أي بمعنى أنها تركيبة كونية توفر لكل ذات في هذا العالم فهما خاصاً يصلح للكل، فالجماليات هي الموضوعات الوحيدة التي يتفق العالم على فهمها من دون لغة أو ضجيج الأفكار، لأنها تلمس أرواحنا، وتشعرنا بعظمة وجودنا. وعليه لا يمكن قصر فهم الحياة بالتفكير العلمي والفهم المادي للأشياء، لأنه يولد كائنا متوحشا وعدوانيا، ولا يمكن قصر تفكير الإنسان بالعاطفة والمشاعر، لأنه يولد كائنا ضعيفا هشا، فالأجمل والأكمل هو الذي يجمع بينهما لأن طبيعة الإنسان خلقت هكذا، لذلك يجب مراعاة طبيعتنا لكي نتقدم.