مفهوم الدولة والمواطنة في الفكر الفلسفي
حسن الكعبي
في كتابه المهمّ “الجماعة السياسية والمواطنة” يراجع الدكتور عبد الإله بلقزيز مفهوم الدولة والمواطنة ضمن جذورها الفلسفية، وينطلق في سياق هذه المراجعة والمساءلة لهذه المفاهيم من تحذيرات جان جاك روسو من خطورة تفشي النزعات الفردانية في المجتمعات الحديثة باعتبارها تهديدًا كبيرًا في مسار بناء الدولة، ومن ثم فإنَّ الفردانية بوصفها مفهومًا يحيل إلى العزلة وعدم الانتماء والانفصال فإنها تسهم في تفكك الدولة وتتنزل تلك النزعات ضمن النرجسيات الانفصالية عن الدولة، وبحسب روسو فإنه “حالمًا يقول أحد عن مصلحة الدولة ما شأني بها؟ عندئذ فإنَّ الدولة تكون في عداد الفقدان”.
إنَّ تصور روسو للدولة ينطلق من مفهوم ميكروفيزيائي، كما عند ميشيل فوكو، الذي يرى أنه “لا يمكن اختزال السلطة في أجهزة الدولة أو في نظام النخبة على اعتبار أنَّ السلطة مشتتة في كل الجسد الاجتماعي”، بمعنى أنَّ الدولة لا تنفصل عن المجتمع، فالدولة هي المجتمع منظمًا، ومن أفق هذا التصور يحضر مفهوم المواطنة باعتباره- على حد تعبير عبد الإله بلقزيز- “علاقة سياسية بين أفراد المجتمع، و(بين) دولة يشاركون في شؤونها العامة”.
فالمواطنة في هذه الحال هي التعارض مع النزعات الفردانية ومن ثم فهي كناية عن المشاركة والانتماء والالتزام بالتشريعات، الأمر الذي يضمن سلامة الجسم السياسي وانسجام عناصره، على اعتبار أنَّ حقوق المواطنة لا تنفصل عن حقوق الوطن، فكلما كان الوطن مُوحدًا ومدمجًا لمواطنيه في وحدة الجماعة السياسية، كانت هناك إرادة للرقي بوضعهم الاجتماعي والاقتصادي، ومن ثم بناء دولة متماسكة لا يمكن أن يطالها الفساد المدني الذي يعتبره بلقزيز النتيجة الحتمية لطغيان الفردانية في تغليبها للمصالح الشخصية.
إنَّ النزعة الفردانية هي التهديد الكبير الذي يطول المواطنة في المنظومات الاجتماعية لكنها- حسب بلقزيز- تظل مصدرًا من مصادر الضغط على مفهوم المواطنة ضمن محيطها الغربي في حين أنَّ التهديد الكبير والضغط على مفهوم المواطنة في المجتمعات العربية يتأتى إضافة إلى الفردانية من البنى الجماعوية الكابحة، التي يصدر عنها الولاء للعرق والقبيلة وللتشكيلات الحزبية أكبر من ولائها للدولة، أو أنَّ الولاء للعرق أو للتشكيلات الحزبية، يكون هو الولاء الوحيد ومفهوم الدولة تأسيسًا على هذا التصور، يقترن بكونها منظومة قمع لا يصدر عنها إلا الشر ومن منطلق هذا المفهوم تنشأ معارضة الدولة ومحاولة تفكيكها من الداخل. وكما يشير بلقزيز فإنَّ هذا هو شأن “المجتمعات المفككة التي تخترقها الطائفية والقبلية من كل اتجاه، والتي ترفع شعار الأمن أولًا، وتؤجل فكرة إصلاح أحوال المواطنين بشكل دائم عملًا بمنطق الأولويات”.
في سياق هذا التعارض فإنَّ مفهوم الدولة يتحول في المخيال الاجتماعي كنموذج ذهني يختزل الدولة وينمطها كرمز للقهر والعنف والتسلط، وهذا النموذج تسرب للمخيال الجمعي عن تصورات فلسفية وفكرية كما عند ماكس فيبر الذي يرى أنَّ بين “الدولة والعنف علاقة حميمة جدّا”.
إضافة إلى الأيديولوجيات السياسية التي تحمل هذه النظرة السلبية للدولة، التي انتقدها بلقزيز ومنها المفهوم الليبرالي الذي يرغب في تحجيم سلطة الدولة وتوسيع دائرة حريات الأفراد، إلى جانب المفهوم الماركسي الذي يعتبرها تعبيرًا عن مصلحة الطبقة المالكة، ويغلب عليها مفهوم مصلحة البروليتاريا ومصالحها على حساب مصالح الطبقات، وفي سياق ذلك يتراجع مفهوم الدولة.
يحاول بلقزيز نقد النموذج الذهني الذي يحتجز مفهوم الدولة ويختزلها ضمن مفردات القمع والعنف والتسلط، مؤكدًا أنَّ “وجود الأجهزة القمعية في دولة من الدول، لا يعبر دائمًا عن رغبة هذه الأخيرة في التسلط والهيمنة وفي تضييق الحريات الفردية، وإنما هو واقع يقتضيه منطق الدولة؛ أي منطق قيام اجتماع سياسي منظم يحصل فيه التعايش بين الأفراد والجماعات، ويتحقق فيه السلم والمدنية”؛ إذ من الطبيعي أن توجد في مقابل النزعات الطبيعية العدوانية والتدميرية للإنسان مؤسسات تعمل على ترويض الجسد وأخرى تضطلع بدور تهذيب السلوك. إنَّ أهمية التربية تحظى باهتمام بلقزيز في بناء الدولة، ولذلك فهو يراهن عليها كما راهن فيلسوف العقد الاجتماعي في العصر الحديث على التربية التي تُعلم الفرد احترام القوانين إلى جانب الالتزام بالدين المدني الذي يجعل “من الوطن موضوع عبادة من طرف المواطنين، ويعلمهم أنَّ خدمة الدولة تعني خدمة الإله الحافظ”.
ولذلك فهو يؤكد أنَّ “استتباب أمر المواطنة كاستتباب أمر الديمقراطية وقف على إحراز نجاح حقيقي في التربية عليها؛ في ازدراع قيمها في النفوس والأفعال؛ في ترسيخها كثقافة عميقة؛ في تمنيعها من أي كابح يفضي إلى تهشيشها”، ويمكن التعويل في مقاومة هذه الكوابح والتأسيس لمجتمع مواطن على دور كل من الأسرة والمدرسة؛ فهما المصنع الاجتماعي الأول للتنشئة والتكوين، أو المشتل الذي يحدد السمات الجوهرية للكائنات السياسية التي لا تخرج من أرحام الأمهات، وإنما من أرحام المؤسسات، لذلك ينبغي العمل على إعادة تأهيل هاتين المؤسستين، حتى تتحررا من حالة التهالك والسلبية التي تلقي بظلالها على المجتمع بأسره.
بعد مراجعة مفهومي المواطنة والدولة ضمن أصولهما النظرية والفلسفية ضمن المستويات التصورية والإجرائية، يتعرض لوظيفة الدولة كما برزت في فلسفة العقد الاجتماعي، التي بنت فكرة الدولة على أساس الحق الطبيعي للفرد الذي لا ينبغي التنازل عنه بشكل مطلق للدولة (إذا ما استثنينا تصور هوبس) الذي يحدد وظيفة الدولة ضمن وجوب ضمان حرية الأفراد وحماية ممتلكاتهم، وهو التصور الذي عمل بلقزيز على نقده من منطلق أنه لا وجود للفرد إلا في نطاق الدولة، التي لا تتعارض سيادتها مع سيادة الشعب. فرغم تشديد التصور الليبرالي على مبدأ حرية التملك الذي ينبغي للدولة أن تحميه قدر الإمكان، إلا أنه يمكن حسب بلقزيز تكييف مبدأ الملكية الخاصة مع مبدأ سيادة الدولة، من أجل إنتاج نوع من المواءمة بين منطق سيادة الدولة، ومفهوم حقوق المواطنة، بين مبدأ الدولة ومبدأ الفرد، القانون والحرية.
إنَّ نظرية الحق المستندة إلى العقد الاجتماعي في تصورات بلقزيز بحاجة إلى المراجعة من أجل كسب معركة العدالة، كما راهن عليها كل من جون راولز وأمارتيا صن، إذ من الضروري حسب بلقزيز ربط العدالة الاجتماعية بنظرية الحق على اعتبار أنَّ الحقوق الاجتماعية- الاقتصادية وجهان لعملة واحدة هي حقوق المواطنة.
يخلص بلقزيز إلى ضرورة تشريح الخلفية الفكرية الموجهة لعمل المجتمع المدني، والتي رغم كونها ترتدي قناعًا مدنيًا/ تنويريًا/ إنسانيًا، إلا أنَّ أنشطتها في الواقع ذات حمولة سياسية؛ أي إنها في الأصل تناضل من أجل تحجيم دور الدولة، وهذا يعني أنها تمارس سياسة مضادة للسياسة الرسمية.
كما أنه يشدد على ضرورة توجيه النقد للمجتمع المدني في نسخته العربية وكشف تحكمات الجهل المسيطر عليه، في سياق تمثله للمفهوم “النظري للمجتمع والدولة، على السواء، ولعلاقات الترابط بينهما كما قامت وتطورت، وكما وعتها فلسفة السياسة والفلسفة الاجتماعية، والعلوم الاجتماعية الحديثة”. فالتمثل الخاطئ لمثل هذه المفاهيم كما يؤكد بلقزيز وخاصة لدى النخب والقادة، إلى جانب إسقاطها على واقع لا يناسبها، كما هو الشأن للواقع العربي، فهو في تصور بلقزيز يضع مصير الدولة والمجتمع على كف عفريت، ويجعل الدولة أمام اختبارات سياسية واجتماعية مفزعة. يمكن أن تؤدي إلى هلاك الدولة والمجتمع على حد سواء.