اللسانيات الإدراكيَّة.. نظرة في المنهج والمبادئ
د. عادل الثامري
إنَّ الإدراك هو العملية العقلية التي نكتسب من خلالها المعرفة والفهم عن طريق التفكير والخبرة الحسية. وهو يشمل العديد من الوظائف والعمليات الإدراكية كالانتباه وبناء المعرفة والذاكرة العاملة والحكم والتقييم والتفكير وحل المشكلات بطريقة حوسبية واتخاذ القرارات وإنتاج اللغة. تفيد العمليات الإدراكية من المعرفة الحالية لدينا وتسهم في توليد معرفة جديدة. ويتم تحليل هذه العمليات من منظورات متعددة وفي سياقات مختلفة، ولا سيما في مجالات اللسانيات وعلم الأعصاب والطب النفسي وعلم النفس والتعليم والفلسفة والأنثروبولوجيا وعلم الأحياء والمنطق وعلوم الحاسوب. يتم تجميع هذه الأساليب وغيرها من الأساليب المختلفة لتحليل الإدراك في مجال العلوم الإدراكية النامي. علاوة على ذلك، فإنَّ كلمة الإدراك وبالتالي العلوم الإدراكية تعود إلى القرن الخامس عشر وهي تعني “التفكير والوعي”.
ظهرت العلوم الإدراكية كمجال متعدد التخصصات في الخمسينيات من القرن الماضي، بإسهامات من علم النفس واللسانيات وعلوم الحاسوب وعلم الأعصاب والفلسفة. في عام 1957، اقترح نعوم تشومسكي نظريته المؤثرة في القواعد التوليدية، والتي أكدت على البنى العقلية الفطرية الكامنة وراء اكتساب اللغة. وتطورت خلال الخمسينيات من القرن العشرين أيضًا نماذج معالجة المعلومات الإدراكية ومقارنة العقل بالحاسوب. في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، حولت الثورة الإدراكية في علم النفس التركيز إلى دراسة البنى والعمليات العقلية الكامنة وراء السلوك. وظهرت مجموعة من المفاهيم والنظريات الأساسية مثل نظريات العملية المزدوجة التي تميز بين العمليات الإدراكية الضمنية والصريحة؛ ونظرية الخطاطة الذهنية، التي تقترح أنَّ المعرفة منظمة في بنى عقلية توجّه الإدراك والفهم؛ والنظريات الحوسبية التي تحلل الإدراك من حيث العمليات الحوسبية؛ النماذج الاتصالية التي تمثل الإدراك على شكل شبكات هي نماذج عصبية اصطناعية. هذه النماذج مستوحاة من بنية ووظيفة الشبكة العصبية في الدماغ البشري؛ ونظريات الإدراك المجسدة التي تؤكد أنَّ الإدراك يتشكل من خلال التفاعلات الجسدية.
اللسانيات الإدراكية وأسسها في الفلسفة
ترتكز اللسانيات الإدراكية على المبادئ الفلسفية للإدراك المتجسد والتجربة. تفترض فكرة الإدراك المتجسد أنَّ الفكر والتفكير البشري يتشكلان بعمق من خلال الأجساد المادية التي نعيش فيها وتجاربنا الحسية الحركية في العالم. وأنَّ فهمنا التصوري ليس مجرداً وغير مجسد، بل ينشأ من تفاعلاتنا الجسدية مع البيئة. يرتبط هذا الموقف الفلسفي ارتباطًا وثيقًا بمفهوم التجربة، الذي يرى أنَّ نظامنا التصوري استعاري في المقام الأول بطبيعته ومشتق من تجاربنا المادية والثقافية. يجادل اللسانيون الإدراكيون بأنَّ المفاهيم المجردة تفهم وتنظم من خلال التعيينات الاستعارية من مجالات التجربة الملموسة والمجسدة.
فضلًا عن مبدأ الإدراك المجسد، تأثرت اللسانيات الإدراكية أيضًا بمفهوم الغشطالت الفلسفي، الذي يشدد على الطبيعة الكلية والمعتمدة على السياق للإدراك البشري. تجادل اللسانيات الإدراكية بأنَّ اللغة ليست نظامًا محايدًا منفصلًا عن العمليات الإدراكية الأخرى، بل هي مترابطة بشكل وثيق مع الإدراك والانتباه وعمليات الذاكرة والتفكير. حيث لا يمكن فصل اللغة عن باقي القدرات الإدراكية للإنسان. هذا المنظور يتحدى النظرة التقليدية للغة كنظام شكلي مستقل، ويدعم فكرة أنَّ اللغة تنبع من قدراتنا الإدراكية الأوسع. علاوة على ذلك، يشير إلى أنَّ فهم اللغة يتطلب النظر إليها في سياقها الشامل، بدلًا من دراستها بمعزل عن العمليات الذهنية الأخرى. كما أنَّ تكامل اللغة مع الإدراك والانتباه والذاكرة يساعد في تفسير كيفية اكتسابنا واستخدامنا للغة بطريقة طبيعية ومرنة. ولا يمكن تجاهل دور هذه العمليات الإدراكية المترابطة في تطور اللغة البشرية وتعقيداتها.
تستمد الجذور الفلسفية للسانيات الإدراكية أيضًا من الظاهراتية، وخاصة أعمال فلاسفة مثل موريس ميرلو بونتي، الذي أكد على أولوية التجربة المعيشة والطبيعة المتجسدة للوجود الإنساني. يشارك اللسانيون الإدراكيون هذا التركيز على الأساس التجريبي للبنى التصورية وعدم إمكانية الفصل بين العقل والجسد. ومن خلال ترسيخ اللغة في الإدراك البشري والتجربة المجسدة، تقدم اللسانيات الإدراكية منظورًا مختلفًا جذريًا عن المناهج الشكلية والتوليدية التي هيمنت على اللسانيات في القرن العشرين.
أسس الإدراك المتجسد في اللسانيات الإدراكية
مفهوم الإدراك المجسد هو مبدأ مركزي للسانيات الإدراكية، يتحدى النظرة التقليدية للعقل بوصفه معالج معلومات مجردًا منفصلًا عن الجسم. يرى لاكوف وجونسون أنَّ العقل مجسد بطبيعته، والجسد هو الذي يشكل العقل، وبما أنَّ معظم التفكير لاشعوري، لذلك لا يمكن ببساطة مساواة العقل بالعقلية الواعية. يرفض هذا المنظور الازدواجية الديكارتية للعقل والجسد، ويؤكد على الصلة التي لا تنفصم بين تجسيدنا المادي وقدراتنا الإدراكية.
يفترض مؤيدو الإدراك المجسد أنَّ فهمنا التصوري يستند إلى الخبرات الحسية الحركية التي نمرّ بها في العالم؛ إذ إنَّ التصورات لا توجد ببساطة ككيانات مجردة، بل تستند إلى عمليات حسية حركية وهي التي تحكم إدراكنا للعالم وتفاعلنا معه. يعتقد أنَّ عملياتنا الإدراكية، بما فيها اللغة، تنشأ من تجاربنا الجسدية في الإدراك والحركة والتفاعل مع البيئة. هذه النظرة إلى الإدراك المجسد تتحدى المفاهيم التقليدية للمفاهيم المجردة وغير الجوهرية؛ يرفض الإدراك المجسد فكرة أنَّ المفاهيم الإنسانية هي أوصاف مجردة أو رمزية بحتة أو افتراضية منفصلة عن خبرات الناس الحسية والحركية. وبدلاً من ذلك، يجادل اللسانيون الإدراكيون بأنه حتى المفاهيم التي تبدو مجردة في ظاهرها فهي متجذرة في الخبرة الملموسة والمجسدة.
يتجلى دور الجسم المادي في تشكيل الفكر والاستدلال من خلال البحث في الاستعارات التصورية. أظهر لاكوف وجونسون (1980) كيف أنَّ المفاهيم المجردة مثل الوقت والعواطف والأفكار غالبًا ما يتم تصورها من خلال الخرائط المجازية من المجالات الملموسة والمجسدة مثل التوجه المكاني والأشياء المادية والتجارب الجسدية. على سبيل المثال، تستند استعارة «الوقت جسم متحرّك» إلى تجربتنا المادية لرؤية الأشياء تتحرك عبر الفضاء. يتجلى دور الجسم المادي في تشكيل الفكر والاستدلال من خلال البحث في الاستعارات التصورية. أظهر لاكوف وجونسون (في كتاب الاستعارة التي نعيش بها) كيف أنَّ المفاهيم المجردة مثل الوقت والعواطف والأفكار غالبًا ما يتم تصورها من خلال التعيينات المجازية من المجالات الملموسة والمجسدة مثل التوجه المكاني والأشياء المادية والتجارب الجسدية. على سبيل المثال، تستند استعارة «الوقت جسم متحرّك» إلى تجربتنا المادية لرؤية الأشياء تتحرك عبر الفضاء.
الافتراضات والالتزامات
يتميز مشروع اللسانيات الإدراكية بالتزامين أساسيين، وهما أساس كل من التوجه والمنهج الذي يتبناه اللسانيون الإدراكيون الممارسون والافتراضات والمنهجيات المستخدمة في الفرعين الرئيسين لمؤسسة اللسانيات الإدراكية: علم الدلالة الإدراكي، والنحو الإدراكي. التزم اللسانيون الإدراكيون على نطاق واسع التزامين رئيسين هما “التزام التعميم” و”الالتزام الإدراكي”. هذان الالتزامان يشكلان أساس الاتجاه والمنهج الذي يتبناه اللسانيون الإدراكيون الممارسون. تعرف اللسانيات الإدراكية على أنها “مؤسسة” أو “حركة” لأنها ليست نظرية معينة. وهي إلى حد ما إطار يفترض مجموعة مشتركة من المبادئ التوجيهية والافتراضات ووجهات النظر.
“التزام التعميم” هو التزام بتوصيف المبادئ العامة المسؤولة عن جميع خصائص اللغة البشرية. والالتزام الإدراكي هو التزام بإعطاء توصيف للمعايير العامة للغة التي تتفق مع ما هو معروف عن النفس والعقل من مختلف الضوابط. اللسانيات الإدراكية، وهي مدرسة حديثة لسانية هي دراسة اللغة التي غالبًا ما يتم عزلها إلى مناطق معينة، على سبيل المثال، علم الأصوات (الصوت)، الدلالة (معنى الكلمة والجملة)، التداولية (سياق الخطاب)، الصرف (بنية الكلمة) القواعد (بنية الجملة)، إلخ. يدفع التزام التعميم إلى البحث عن معايير بنية اللغة التي تنطبق على جميع أجزاء اللغة. بطريقة مترابطة، يشير الالتزام الإدراكي إلى الرأي القائل إنَّ معايير البناء اللغوي يجب أن تعكس ما يفكر فيه حول الإدراك البشري من عناصر تحكم مختلفة، وخاصة العلوم الإدراكية الأخرى (الفلسفة وعلم النفس والذكاء الاصطناعي وعلم الأعصاب).
يمثل التزام التعميم التزامًا بتوصيف المبادئ العامة التي تنطبق على جميع جوانب اللغة البشرية. وهذا الهدف هو مجرد حالة فرعية خاصة من الالتزام المعياري في العلوم بالسعي إلى أوسع تعميم ممكن. على النقيض من منهج اللسانيات الإدراكية، غالبًا ما تفصل المناهج الأخرى لدراسة اللغة القدرة اللغوية إلى مجالات متميزة مثل علم الأصوات (الصوت)، وعلم الدلالة (معنى الكلمة والجملة)، والبراغماتية (المعنى في سياق الخطاب)، والصرف (بنية الكلمة)، وبناء الجملة (بنية الجملة)، وما إلى ذلك. يمثل التزام التعميم التزامًا بالتحقيق المفتوح في كيفية ظهور الجوانب المختلفة للمعرفة اللغوية من مجموعة مشتركة من القدرات الإدراكية البشرية التي تعتمد عليها، بدلًا من افتراض أنها تنتج في وحدات مغلفة من العقل. التزام التعميم له عواقب ملموسة على دراسات اللغة. أولًا، تركز الدراسات اللسانية الإدراكية على ما هو مشترك بين جوانب اللغة، وتسعى إلى إعادة استخدام الأساليب والتفسيرات الناجحة عبر هذه الجوانب.
والالتزام الثاني هو الالتزام الإدراكي. وهو يمثل التزامًا بتقديم توصيف للمبادئ العامة للغة يتوافق مع ما هو معروف عن العقل والدماغ من التخصصات الأخرى. وهذا الالتزام هو الذي يجعل علم اللغة الإدراكي إدراكيًا، وبالتالي فهو منهج متعدد التخصصات بشكل أساسي بطبيعته. وكما يؤدي التزام التعميم إلى البحث عن مبادئ البنية اللغوية التي تشمل جميع جوانب اللغة، بطريقة مترابطة، فإنَّ الالتزام الإدراكي يمثل وجهة النظر القائلة إنَّ مبادئ البنية اللغوية يجب أن تعكس ما هو معروف عن الإدراك البشري من الجوانب الإدراكية الأخرى. وعلوم الدماغ، وخاصة علم النفس، والذكاء الاصطناعي، وعلم الأعصاب الإدراكي، والفلسفة. وبعبارة أخرى، يؤكد الالتزام الإدراكي أنَّ نماذج اللغة والتنظيم اللغوي المقترحة يجب أن تعكس ما هو معروف عن العقل البشري، بدلًا من الإملاءات الجمالية البحتة مثل استخدام أنواع معينة من الشكليات أو اقتصاد التمثيل. للالتزام الإدراكي عدد من النتائج الملموسة. أولًا، لا يمكن للنظريات اللسانية أن تتضمن هياكل أو عمليات تنتهك الخصائص المعروفة للنظام الإدراكي البشري. على سبيل المثال، إذا كان الاشتقاق المتسلسل للبنى النحوية ينتهك القيود الزمنية التي توفرها المعالجة الفعلية للغة البشرية، فيجب التخلص منها. ثانيًا، النماذج التي تستخدم الخصائص المعروفة والموجودة للإدراك البشري لتفسير ظواهر اللغة هي أكثر بخلًا من تلك التي تم بناؤها من مقاييس البساطة المسبقة. على سبيل المثال، يُعرف الكثير عن التصنيف البشري، والنظرية التي تقلل معنى الكلمة إلى نفس الآليات المسؤولة عن التصنيف في المجالات الإدراكية الأخرى أبسط من تلك التي تفترض وجود نظام منفصل لالتقاط الدلالات المعجمية. وأخيرًا، يتعين على الباحث اللساني الإدراكي إيجاد أدلة متقاربة للواقع الإدراكي لمكونات أي نموذج أو تفسير- سواء تم إجراء هذا البحث من قبل اللسانيين الإدراكيين أم لا.
تستند المقاربة الإدراكية إلى مبادئ الإدراك المتجسد والاستعارات التصورية. وتفترض أنَّ الفكر والتصور البشري يتشكلان من خلال التجارب الجسدية والحسية، متحدية بذلك النظرة التقليدية للغة باعتبارها نظامًا مستقلًا. تلتزم اللسانيات الإدراكية “التزام التعميم” الذي يسعى لتوصيف مبادئ عامة تنطبق على كل جوانب اللغة، و”الالتزام الإدراكي” الذي يهدف لضمان توافق النماذج اللغوية مع المعرفة الحالية عن الإدراك البشري. ويؤكد هذا المنهج على الترابط بين اللغة والعمليات الإدراكية الأخرى كالانتباه والذاكرة، ويدفع نحو بحث متعدد التخصصات يستفيد من مجالات مثل علم النفس والذكاء الاصطناعي وعلم الأعصاب، مما يجعل اللسانيات الإدراكية إطارًا شاملًا لفهم اللغة في سياق القدرات الإدراكية البشرية الأوسع.