ما علاقة اللغة بطريقة التفكير؟

ثقافة 2024/07/25
...

 ليرا بوروديتسكي

 ترجمة : مظفر لامي

كنت أقف بجوار فتاة في الخامسة من عمرها في بورمبوراو؛ موطن جماعة صغيرة من السكان الأصليين في الطرف الغربي من كيب يورك في شمال استراليا. طلبت منها أن تشير إلى الشمال، ففعلت ذلك دون تردد وبدقة، كما أكدت لي بوصلتي. وعند عودتي لاحقا إلى قاعة المحاضرات في جامعة ستانفورد، تقدمت بنفس الطلب إلى جمهور من العلماء المتميزين الفائزين بميداليات العلوم وجوائز مهمة، واشترطت عليهم من أجل تفادي الغش أن يغمضوا أعينهم ويشيروا إلى الشمال.

وكانت النتيجة أن الكثير منهم امتنعوا بسبب عدم معرفتهم الإجابة الصحيحة، وآخرين استغرقوا وقتا طويلاً من التفكير ثم أشاروا لاتجاهات مختلفة. لقد كررت هذه التجربة في هارفارد وبرينستون وفي موسكو ولندن وبكين وكانت النتائج دائما متماثلة. كيف يمكن لطفلة في الخامسة من ثقافة ما أن تفعل شيئا يعجز عنه علماء بارزون من ثقافات أخرى، رغم الفرق الكبير في القدرات المعرفية؟ سؤال اتضح أن الإجابة المفاجئة والمحتملة له تتعلق باللغة.

تعود الفكرة التي تقول إن اللغات المختلفة قد تنقل مهارات معرفية مختلفة إلى قرون مضت، ومنذ ثلاثينيات القرن الماضي أصبح هذا المفهوم مرتبط باللغويين الأمريكيين إدوارد سابير وبنجامين لي وورف، اللذين درسا الكيفية التي تختلف فيها اللغات، وعرضا طرقًا قد تجعل المتحدثين بلغات مختلفة أن يفكروا بشكل مختلف. 

وفي وقتها قوبلت أفكارهم بإثارة كبيرة، لكن سرعان ما برزت مشكلة صغيرة، تتعلق بالنقص شبه الكامل في الأدلة التي تدعم فرضياتهم. مما سبب احباطا لدى العلماء في سبعينيات القرن الماضي، وتقريبًا تم التخلي عنها مع ظهور مجموعة من النظريات الجديدة التي تقول إن اللغة والفكر عالميان. 

أما الآن، وبعد انتظار استمر لعقود من الزمن، ظهرت مجموعة رصينة من الأدلة التجريبية التي توضح الكيفية التي تشكل بها اللغات تفكيرنا. وهذه الأدلة تدحض المسلمة العالمية القديمة، وتقدم رؤى رائعة حول أصول المعرفة وبناء الواقع. ولهذه النتائج آثار مهمة على القانون والسياسة والتعليم.

في جميع أنحاء العالم، يتواصل الناس مع بعضهم البعض باستخدام مجموعة مذهلة من اللغات، يصل عددها لسبعة آلاف لغة تقريبًا. وكل واحدة منها تلزم المتحدثين بها باحتياجات في غاية الاختلاف. على سبيل المثال، لنفترض أنني أردت اخبارك أنني رأيت العم فانيا في شارع 42 وكنت أستخدم لغة ميان، وهي لغة تستخدم في بابوا غينيا الجديدة. عندها سيشير الفعل الذي استخدمته لزمن حدوث الفعل، بينما نجد في اللغة الإندونيسية أن الفعل لا يكشف حتى إن كان الفعل قد حدث بالفعل أو هو في طريقه للحدوث. في اللغة الروسية الفعل يكشف عن جنس المتحدث. 

وفي لغة الماندرين، يجب أن أحدد إن كان العم من جهة الأم أو الأب، وإذا كان ارتباطًا بالدم أو بالزواج، لوجود كلمات مختلفة لكل حالة. في اللغة الصينية العم هو شقيق الأم. وفي البيراها، وهي اللغة المستخدمة في منطقة الأمازون لا يستطيع المتحدث ذكر الرقم 42 بسبب خلو اللغة من كلمات تشير للأرقام بدقة، ولا يوجد ما يحل محلها سوى كلمتي قليل وكثير.

تختلف اللغات عن بعضها البعض بطرق لا حصر لها، لكن مجرد تحدث الناس بشكل مختلف لا يعني بالضرورة أنهم يفكرون بطريقة مختلفة. وهنا نتساءل، كيف نعرف أن كان المتحدثون بلغة ميان أو غيرها، ينتهي بهم الأمر حقا إلى الاهتمام بالعالم وتذكره والتفكير فيه بطرق مختلفة بسبب اللغات التي يتحدثون بها؟ لقد كشفت الأبحاث التي أجريتها في مختبري وتلك التي أجريت في مختبرات أخرى الكيفية التي تشكل بها اللغة الأبعاد الأكثر جوهرية في التجربة الإنسانية: المكان والزمان والسببية والعلاقة مع الآخرين. ولنعد إلى اللغة المستخدمة في بورمبوراو التي تختلف تماما عن الانكليزية في عدم استخدامها مفردات للمكان كاليمين واليسار. والمتحدثون بهذه اللغة لا يستخدمون سوى مفردات الاتجاهات الأساسية "الشمال، الجنوب، الشرق، الغرب" وبالطبع تستخدم هذه المفردات في اللغة الانكليزية لكن فقط للمقاييس المكانية الكبيرة. فلا نقول مثلًا "لقد وضعوا شوكة السلطة جنوب شرق شوكة العشاء" أو "الكأس جنوب شرق الطبق" أو "الصبي الذي يقف إلى الجنوب من مريم هو أخي" كما هو معتاد في بورمبوراو،التي يجب على المرء فيها أن يكون مدركًا جيدًا للاتجاهات كي يتمكن من التحدث بشكل صحيح. 

لقد أثبتت الأبحاث أن الأشخاص الذين يتحدثون لغات تعتمد على الاتجاهات الأساسية جيدون بشكل ملحوظ في تتبع مكان تواجدهم، فمتطلبات لغاتهم تعزز وتمرن هذه البراعة المعرفية، أكثر مما هو موجود في أي لغة أخرى. 

من المرجح أيضًا أن الناس الذين لديهم تفكير مختلف حول المكان، يختلفون كذلك في تفكيرهم حول الزمان. ففي تجربة أجريتها مع زميلة لي قدمنا للمتحدثين بلغة بورمبوراو مجموعات من الصور التي تظهر تطورات زمنية - رجل يتقدم في السن، تمساح ينمو، موزة تؤكل – ثم طلبنا منهم ترتيب الصور الممزوجة على الأرض بحسب الترتيب الزمني الصحيح. وكانت اختباراتنا مرتين لكل شخص، مع التأكيد على تغيير الاتجاه في كل مرة. بالطبع، المتحدثون باللغة الإنكليزية سيقومون بترتيب البطاقات من اليسار إلى اليمين، و في اللغة العبرية سيكون الترتيب من اليمين إلى اليسار. 

فاتجاه الكتابة في اللغة يؤثر على الترتيب الزمني. لكن الأشخاص في اختباراتنا فعلوا شيئا آخر، فعندما جلسوا في مواجهة الجنوب، رتبوا البطاقات من اليسار إلى اليمين، وعندما واجهوا الشمال، انتقلت البطاقات من اليمين إلى اليسار، وحين اتجهوا نحو الشرق رتبوا البطاقات باتجاه أجسادهم. 

هناك أيضًا اختلافات في لغة الجسد فيما يخص التعبير عن الماضي والمستقبل، فالمتحدثين باللغة الانكليزية يعتبرون المستقبل "أمام" والماضي "خلف" وهم يظهرون ذلك في حركة أجسادهم، بينما نجد الأمر معكوسا في لغة الأيمارا، وهي اللغة المستخدمة في جبال الأنديز. بالإضافة لذلك، وثقت الأبحاث أمثلة كثيرة تشير للتباين الواضح في وصف الأحداث بين المتحدثين بلغات مختلفة، الأمر الذي يصل لدرجة كبيرة من التعقيد ويكون بحاجة إلى إعادة تفسير.

إن الطريقة التي نفكر بها تؤثر على اللغة التي نتحدث بها، لكن هذا التأثير يسير أيضًا في الاتجاه المعاكس، وقد ظهرت في العقود الماضية العديد من البراهين التي تثبت الدور السببي الذي تلعبه اللغة في تشكيل الإدراك. وما كان الباحثون يطلقون عليه بـ "التفكير" يبدو في الواقع وكأنه مجموعة من العمليات اللغوية وغير اللغوية. ونتيجة لذلك، قد لا يكون هناك فرص كثيرة عند البالغين من البشر لتفكير لا يكون فيه للغة دورٌ مهم.