ياسين طه حافظ
أخطر الموضوعات خارج الكتاب، أخطرها يبعد عنه الحديث، وأخطر الموضوعات ليس من تخصص أحد وليس من اهتمام أحد، الناس جميعاً خارج الناس جميعاً. هم يقتطعون أجزاءً منه، صوراً من جوانبه التي لا تُفزع، ويضعون أسماء وأرقاماً، فتضيع الصور والأسماء وتبقى الأرقام.
السؤال بإيجاز: كم تدفع من روحك، كم تدفع من ضميرك، وكم تدفع من سلامك اليومي، لتعيش؟ لتعيش آمناً، لتعيش سوياً، كما يقول القرآن؟ أممكن هذا؟ بلا زجر، بلا امتهانة واستلاب؟ أقوال يرددونها، كاذبة كذباً مخزياً، كذباً صفيقاً. تلك العبارة فاضحة الزيف.
"حق كلِّ الشعب بالحياة"، لكنهم بالأحكام الخاطئة، بكثرة الأخطاء وفداحتها، بإحناء رؤوس الناس، وفرض الصمت على الشر وعلى الغبن وعلى زقوم العيش، دمّروا أرواح الناس. جعلوا من الناس ماكرين ومنافقين ولصوصاً ووضعاء متزلفين ودمغوهم باليأس التام، فلا عيش إلا فنانة بملابس نظيفة لمزيد من الخداع. الظلم والخداع والأخلاق العوجاء المنحرفة، وراء الألفاظ اللّماعة الدبقة. وراء المظاهر الخدّاعة لبشر فَسد وبرع في التسلق، برع في الاحتيال.
من منا لم يتعرض إلى امتهان، لم يأكل رأسه الخوف، لم يتظاهر بالولاء للشر أو الشيطان؟ من منا لم يعبر على ظهره نفاق الممسوخين، فيخلي مكانه مستلَباً، أو يخسر فرصته وتسلسله، ويعيش جل عمره أما تحت التهديد أو تحت الحاجة أو يطوله شيح الازاحة وترْك الضوء أو ترك الصواب. رؤية الحقيقة عادة سببُ دمار.
ها أنا اقتربت لمزيد من الايضاح اُنهِكت النخبة من المثقفين ومن الأخيار، وممن رأوا الحقيقة، حقيقة الحياة. ممن يعرفون ما وراء الأقوال المنافقة وألمعيّات اللصوص وكَذَبة الكتابة وكذَبة الأقوال والأفعال. نماذج كثيرة، حيثما تكون، عماليق للسوء والكذب. هي بعض النفوس التي تدمِّر، والتي دُمِّرت سلالاتها من زمان تقتل الناس وتسمم الحياة. صنوف رثة يكرههم الله ويكرههم الناس وتكرههم الحياة.
البشر ممتحَنون بالعيش، محكومون بالحياة ومحكومون بتحمل الشرور كلها.. وأُجبروا قروناً، وسنين لا تُعَدّ، على الانصياع، على تحمل ما يكرهونه، وما هو صعب وبلا حل: إن الإنسان يحب الحياة. ونحن، ومن سبقنا، نتحمل ويتحملون كل الايذاءات، كل مسخ الأرواح، لنبقى أحياء. ومن أجل فرصة الحياة يتحمل الناس وطأة الجرائم بحقهم، وطأة اغتصاب الحقوق ووطأة الخوف وإحناء الرؤوس رضوخاً بشعاً موجعاً فحتى الهواء مُهين.
ثمة من يضيق بهم تحمّل ذلك. صحيح، صحيح جداً ليس جميع الناس مَرَدَة ينتفضون، التمردات والانتفاضات ليست قليلة في التاريخ البشري. لكن للأسف، عقب فشل التمرد وقبله، وليُتّقى أو ليُطفأ، تُهان وتدمّر نفوس كثيرة، وأرواح كثيرة تُباع، وأرواح كثيرة تشتَرى، وأرواح كثيرة زائفة وممسوخة تبقى.
كم من الأرواح تدمَّر أو تُهان كل يوم؟
نفوس كثيرة دفعت وتدفع ثمن عيشها، ثمن تنفسها للهواء الملوّث الذي ما صفا يوماً، ياللأرواح التي دُمّرت خوفاً أو امتهاناً أو اغتصاباً وحرماناً، كم عدد هذه الأرواح؟ سألنا ولا جواب ونسأل ولا جواب! هل يعرف أحد الضحايا؟ أجب أيها التاريخ.
أساطين الوحشية والطغيان في التاريخ كله ما سمحوا بطرح الأسئلة، لم يسمحوا لنا بطرق الأبواب المغلقة على الموتى. سمحوا لنا بشيئين، شيئين لم يلحقهما المنع هما:
الحزن والصمت، هذان هما القوت اليومي للجميع.
وهم أولئك علموا الناس الشكر على الانكسار والفرح بصدَقة المغتصِب وعلى الصبر "الجميل" على افتقاد الخبز والحرية. الناس عبر قرون، عبر عقود وسنين، منكسرون روحياً ويتساقطون روحياً أو يتعفنون ويعيشون كفافاً بلا أرواح. ليس غير أجساد محشوة رزّاً رديئاً وقشاً وكذباً ومهانات. من المسؤول عن هذا السقوط الأخلاقي للناس والسقوط الروحي لهم؟ من جعلهم كَذَبة ومرائين ومرتزقة ساقطين ووشاة بسبب وبلا سبب وليس سوى التبجح وليس سوى أجواف ملأى باللغو؟ من أوصل حشود البشر في الأرض إلى هذا المآل؟ يا الهي أي مجتمعات هذه؟ يتعالون أيضاً، وكل يكذب في الكلام، ويكذب في العمل ويكذب في الولاء والإيمان ويكذب حين يقول: سوف...
نفوس عظيمة تهاوت
نفوس عظيمة أُرهقت
وأرواح ميتة علقت في أجساد تجوس المدن
فلا هي أشباح ولا هي بشر ممن خلق الله وعرفته الأرض. مخاليق شائهة وعليك أن تصغي، وعليك أن تحترم.
مسكينةٌ أيتها الفضيلة
منتصرةٌ أنتِ أيتها الخِسّة!
هو هذا ما خلّفته لنا الأزمنة، هذا هو ما نحن نحشرجُ منه ونريد الانتصار عليه.
باركوا الفعل الطيب لنبقى أحياء.
باركوا كل مسعى إلى الضوء والحياة
ومبارك وشرفٌ هو الاصغاء لمن ضاقت به الدنيا
ومبارك كل فعل لإنقاذ الإنسان، لحمايته نظيفاً وآمناً ولا شر وقذارة تهددانه، تريدان روحه.
مئات السنين مرت على الناس، سحقت أدمغتهم، فمات من مات ومن ظل، ظل مسخاً أو سلم فهو في جحر لا يُرى.
حاولت الأديان أن تفعل شيئاً، ولكن الشر كبير ومتعدد الوجوه. وحاولت عقولٌ، لكن ظل ضحايا العيش الصعب ممن يتحملون الركل والبصاق والمهانة والطرد من الموقع. أنواع لا عد لها من الامتهان، أنواع لا عدّ لها من الاغتصاب، كلها مستمرة ولا تكف.. بشر محدود العدد، أفراد خارقون، عيونهم وقلوبهم وأجسادهم لله والإنسان والمعنى. أولاء طلائع الرفض، الثائرون العظام، أصحاب العظمة الإنسانية في التاريخ، هؤلاء لم يتركوا الحياة بلا نقاط ضوئية، لم يتخلوا عن البشرية المسحوقة، لم يديروا وجوههم عن الأرواح المدمَّرة. لكن أسفاً، بعض من أولاء دُفِنَ ملطَّخاً بدمه.