مصوّر حربيّ على خط المواجهة

بانوراما 2024/07/29
...

 سين أوهاغان 

 ترجمة: مي اسماعيل


كان «بيتر فان أغتميل» في التاسعة من عمره حين ذهبت أميركا لحرب العراق للمرة الأولى. وفي سياق افتتانه بموجة الحماسة التي تلت؛ قطع الصبي مخططا من احدى الصحف لمجموعة الأسلحة التكنولوجية المستخدمة من الجيش الأميركي، واحتفظ به. وعندما كبر وأصبح صحفيا ألّفَ كتابه المُصور، ووثّق حروب الولايات المتحدة الخارجية وإنقساماتها الداخلية، وكتب في مقدمة كتابه الأخير «انظر إلى الولايات المتحدة: مذكرات من الحرب والوطن» يقول: «كانت تلك مادة عالية التشويق بالنسبة لصبي سريع التأثر، يشعر وكأنه منبوذ غريب الأطوار ولديه الكثير من الوقت ليحلم». وقد كشف في الكتاب مواقف ملتبسة ومزعجة في أغلب الأحيان.

ينتمي أغتميل (المولود بالعاصمة واشنطن) للطبقة المتوسطة ونشأ في ولاية ماريلاند، ونال شهادة في التاريخ من جامعة «ييل»؛ لكنه أصبح مصور حربٍ متمرس ومصورا صحفيا لدى وكالة «ماغنوم» للتصوير. يصف كتابه؛ الذي يجمع تقاريره الصحفية من العراق وأفغانستان مع صور مقلقة للحياة الأمريكية اليومية، بأنه.. «مجموعة من شظايا حقبة ما بعد 11/9»؛ ويتخلله أحياناً كثيرة تأملات شخصية عميقة وتساؤلات ذاتية، كما إنه عبارة عن محادثة مشحونة مع النفس حول طبيعة مهنته وأخلاقياتها الشائكة. ويمضي قائلا: «بالنسبة لي تُشكّل الكلمات والصور، والتفاصيل الشخصية من حياتي؛ أجزاء من مسارٍ أكبر، بقدر ما هي وسيلة لاستكشاف ما أقوم به، ولماذا عليَّ القيام به.. وكذلك المحادثات التي أُجريها مع مصورين آخرين وأفراد عائلتي وأصدقائي المُقربين.. لقد تعلمتُ أن مواجهة مخاوفك وعيوبك وقلقك يساعدك على فهم نفسك ويقلل شعورك بالوحدة».   من أولى تلك الشظايا؛ ذكرى احدى المحادثات مع والديه عام 2005.. كان أغتميل حينها في الرابعة والعشرين، وحرب العراق مستمرة.. أخبر والديه أنه سيُغادر إلى العراق للمرة الأولى ليكون مصورا مُصاحبا للجيش الأميركي. كانت ردة فعلهما (ولا غرابة) مزيجا من الحيرة والقلق.. قال له والده (مُشيرا إلى إنبهاره الدائم بالحرب): «هميّ الأكبر انك سوف تترك هذا الانبهار وراءك يوما ما؛ وما يُرعبني بالطبع أنه لن تتاح لك الفرصة للخروج منه..». الآن وهو في الثالثة والأربعين، يبدو ان أغتميل قد غادر ذلك الانبهار أخيرا (على قدر ما يبدو من الكتاب)، ووصل مرحلة التأمل الذاتي العميق.. وعنها يقول: «عشتُ أزمة مستمرة مع نفسي، يمكن تسميتها الحيرة الأخلاقية لوجودي. 

من المفترض تقليديا أن يعمل المصورون الفوتوغرافيون من موقع السلطة والانفصال الذهني الواضح (عن الاندماج بالحدث)؛ لكنني لم أتمكن من ذلك قط. بالنسبة لي ارتبط المهني والشخصي معا؛ وفي هذا الكتاب أردتُ أن أكشف أنني كنتُ دائما مراقبا متشككا ومرتبكا». 


سرد متنقل بين المدن

لا تُشكّل محاولات أغتميل لإستنطاق التصوير 

 الفوتوغرافي  نوعا من المفاجئة لمن يعرف كُتُبه السابقة.. ومنها «ليلة الديسكو 11 أيلول، 2014» و»طنين على حافة الشباك، 2017» و»نأسف للحرب،2021».  يتعامل كل كتاب بطرق مختلفة مع مشاعر الاستياء من أميركا ما بعد 11/9، وإلى حدٍ ما مع استياء أغتميل من التصوير الفوتوغرافي. يجمع الكتاب الجديد صورا من جميع تلك الجوانب؛ التي قام بترتيبها عمدا وفي كثير من الأحيان بإسلوب الدمج المتنافر للكلمات والصور. وتُعطي التعليقات على الصور بحد ذاتها فكرة عن الطبيعة العميقة لتقاريره من العراق وأفغانستان.. مثل: «طفل مُصاب وسط فوضى الغارة»، و»قبل الكمين»، و»في أعقاب تفجيرٍ انتحاري».

غالبًا ما تُثير تلك الصور ذكريات مؤلمة، لكنها تستعيد الفترة التي قضاها مع الجنود الأميركيين، الذين كان يعتمدُ عليهم لضمان سلامته وصار بعضهم أصدقاء له؛ رغم انه بقي جزءاً من القوة غير القتالية. تحفل كتابات أغتميل بما يمكن تسميته بالتعبيرات «المثقلة المستترة»؛ استحضر في احدها الفوضى الدموية التي خلفتها غارة ليلية على منزل بالموصل، وأكدت الصورة مدى واقعيتها: «وثب صبي (مدفوعا بعنف الموقف) على أحد الجنود؛ الذي هشم وجهه بكعب البندقية». 

صوّر أغتميل جنودا أثناء عملهم، وفي دورية بين السكان المحليين غير المبالين أو المعادين بشكل واضح، وهم يرتاحون في مهاجعهم الضيقة المزدحمة، أو يتلقون الرعاية من مستشفيات الميدان نتيجة إصابات مروعة إثر تفجير سيارات مفخخة. يتنقل السرد فجأة؛ من بغداد والموصل إلى كنتاكي وواشنطن، من السهول الصحراوية وسلاسل الجبال الشاسعة إلى خط الصدع الاقتصادي الموحش لطريق «أيت مايل رود»؛ المار بمدينة ديترويت ليفصل الطبقة الوسطى البيضاء عن فقراء المناطق الحضرية بغالبيتهم السوداء.


 شعور عميق بالغضب

تُلمّح صور أغتميل الأميركية إلى السخط المتصاعد الذي استغله الرئيس السابق دونالد ترامب والحزب الجمهوري منذ ذلك الحين لخطاباته التحريضية. في مدينته ماريلاند صوّر أغتميل شخصا منفردا يرتدي رداءً أبيض وقلنسوة، يمشي منفردا نحو فسحة في الغابة تقام فيها طقوس تعريفية لجماعة «كلوكلاكس كلان- KKK” (العنصرية المتطرفة). 

يقول أغتميل: “كلما إزداد فهمي للمكان، كلما قلّت قدرتي على توقع ما سيحدث. ولكن حينما كُنتُ ألتقط الصور في المناطق الريفية للعمال البيض قبل وصول ترامب إلى السلطة؛ كان بوسعي بالتأكيد أن أتوقع القوى التي انتخبته. سمعتُ فجأة تعبيرات عنصرية مجنونة مُزعجة للغاية لم أسمع بها من قبل. كل ما يتطلبهُ الأمر هو أن تمنح شخصية بسلطة سياسية الترخيص لأسوأ الغرائز للانطلاق والصراع”.

لا يسع المرء إلا أن يتساءل وسط كل هذا عن التداعيات النفسية لانخراط المُصّور العميق والمستمر بالصراعات العنيفة والاضطرابات الاجتماعية. يصف أغتميل في كتابه بوضوح حالته الذهنية في مرحلة ما بعد العراق، والليالي التي قضاها.. “مستيقظا حتى الفجر، أشاهد تسجيلات مقاطع فيديو لمعارك بالأسلحة النارية؛ رغم أنني بالكاد أستطيع النظر إلى الصور الفوتوغرافية التي إلتقطتها

بنفسي..”. ويمضي بالقول إنه أصبح معتزلا وقليل اللقاء مع العائلة والأصدقاء.. “وأكثر شعورا بالغضب كي أتمكن من إيصال مشاعري الحقيقية عن ما رأيتُ وأحسست..”.   يمكن القول أن الكتاب؛ بكل ما فيه من مجموعة فوضوية وممزقة ومتنافرة للصور والكلمات والاعترافات؛ هو ذروة مسار طويل للشفاء الذاتي. وهو ما يصفه المصوّر بوضوح في الفصل الأخير، قائلا: “هناك شيء من النرجسية عبر هذه المقاربة برمتها؛ لكن النظر المستمر إلى الداخل جعلني (بطريقة ما) أستطيع النظر إلى الخارج.. أشعر بالفخر لهذا، وهناك نوعٌ من التعقيد والغموض هنا. ولكن؛ وكما هو الحال مع الصور الفوتوغرافية؛ فقد بدأتُ بالكاد بخدش سطح ما مررت به..”. 


الغارديان البريطانية