موقف الحسين.. وموقف الآخرين
حازم رعد
كان الإمام الحسين جزءاً من منظومة إسلاميَّة مناهضة لحكومة الأمويين بشكلٍ عامٍ ويزيد بين معاوية بشكلٍ خاصٍ «اذ لم يكن يخطر في ذهن معاوية توليه العهد من بعده ليزيد لولا مشورة بعض المنتفعين أمثال المغيرة بن شعبة» ولم يكن ذلك خافياً على معاوية ولذا حاول بشتى السبل أخذ العهود والمواثيق عليهم بالإقرار بولاية العهد من بعده لولده يزيد، حتى اضطره الأمر أنْ يتركَ الشام ويجيء الى المدينة المنورة ويعقد الاجتماعات في ذلك السبيل وهذا ما لم يفلح فيه، لا سيما أنه لم يعد لهذا الأمر مبكراً وإنما تكونت الفكرة عنده من تلك المشورات التي حرصت على تثبيت حكومة الباطل وخصومة الحقيقة في المجتمع الإسلامي، وتوزعت أهداف وغايات تلك الخصومة مع يزيد رمز السلطة الأمويَّة على أشكال، فبعض الأطراف كان طامعاً بالسلطة وأبرز تلك الأسماء هم عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عباس وكان أبرز المعارضين هو الإمام الحسين (ع).
ولكن لم يجرؤ أحدٌ من تلك المنظومة أنْ يظهر باحتجاجٍ ضد السلطة ولأسبابٍ كثيرة لعلَّ منها الخوف على النفس من بطش السلطة وأخرى تتعلق بمصالح ماديَّة تجارة وامتيازات وغيرها، ومنها ما يرتبط بأطماع الحظوة بالسلطة والتمكن منها حال سنحت الفرصة بذلك، وأنَّ بعضاً من الأطراف كان يخشى أنَّه لو ناصر الحسين ووقف معه أنْ يسيطر الحسين «ع» على السلطة لما للحسين من مكانة في قلوب أهل الحجاز، وبالتالي يفقدون امتيازاتهم ومراكز نفوذهم، أو لا يغدق عليهم بالعطاء ولا يميز بينهم وبين سائر المسلمين، فسيرة أهل هذا البيت واضحة للقاصي والداني في مساواتهم بين الناس وعدم تقديمهم لأحدٍ على آخر لسابقة أو لقرابة «وهو السبب ذاته الذي ألّبَ واجهة معسكر الجمل على الإمام علي».
وكانت هناك أطرافٌ تدعي الحياد فاذا ما حانت الفرصة قدموا البيعة ليزيد وحكومة الأمويين وعلى رأس تلك الأطراف كان عبد الله بن عمر الخليفة الثاني وأيضاً عبد الله بن عباس، ولذلك كان الإمام الحسين يؤكد على حقيقة في أنه (من لحق به استشهد ومن لم يلحق لم يدرك الفتح) وكذلك يركز اهتمامه على طلب النصره والمعونة من المسلمين حتى لا يدع مجالاً للتبريرات بعد ذلك ويحرص على عدم ترك فرصة للتذرع والاعتذار من المشاركة في ذلك القيام حتى وصل به الحال للقول (من سمع واعيتنا ولم ينصرنا أكبَّه الله على منخريه في قعر جهنم) وهذا لوحده كافٍ لإثبات تماسك موقفه وصلابته على الأمر الجلل الذي تحمل أعباء مسؤوليته وكذلك التأكيد على الباقين من واجهات إسلاميَّة ومسلمين لنصرته والوقوف الى صفه لنصرة الدين وإيقاف نهج حكومة الأمويين الذي أضرَّ بالعقيدة وحرف الشريعة وافتعل بالإسلام ما لم يفتعله عدوٌ من خارجه.
والنتيجة أنَّ الحسين بن علي عليه السلام خرج لوحده وبنفسه مع نخبة من أتباعه وأنصاره ضد السلطة الغاشمة آنذاك وأسَّسَ لنفسه مشروع مواجهة مع السلطة ابتدأ بالدعوة السلميَّة ومناهضة الجور والاستبداد والوقوف بوجه الانحراف الذي شقَّ عصا الأمة وقسمها الى أحزابٍ تتبارى من أجل النفوذ والزعامة والتسيد على سائر المسلمين تدفعهم عصبيَّة الجاهليَّة وأحقادٌ مضمرة متبادلة بين أطرافٍ عدة وكان الحفاظ على الهويَّة الإسلاميَّة من التهميش وبيضة الإسلام من الهتكِ آخر ما يفكر به أمثال هؤلاء عدا الحسين «ع» الذي أعلن موقفه صراحةً من القيام ضد الباطل والوقوف الى جانب الحقيقة والسير بسيرة جده وأبيه أو يموت دون ذلك وهذا ما جرى فعلياً.
ففي جملة الأحداث التي حصلت مع الإمام الحسين في هذا الخروج العظيم أنَّه واجه مجموعة من الاعتراضات ولا نقرأها كلها بطريقة آثمة، إذ لعلَّ بعضها صادقة بخاصة تلك التي صدرت من بعض أهل بيته ومقربيه ولكنَّ أكثرها مختلفٌ عن ذلك ويمكن الكلام تصنيفاً لتلك الاعتراضات في عدة نقاط من جملتها:
1 - اعتراضات من داخل المنظومة الإسلاميَّة الي هي بالأساس بالضد من حكومة يزيد لكنهم كان يصور لهم أنَّ الحسين (ع) طالبٌ للسلطة وراغبٌ بها؛ بمعنى أنَّ خروجه وتركه للمدينة ومكة المكرمة كان لدواعي المصلحة الشخصيَّة وصراعه مع الأمويين ويزيد منافسه لتولي السلطة ولأجل الحصول على المكتسبات، وليست دوافعه دينيَّة وإصلاحيَّة، وكان لهذا الاتجاه تمثيلٌ بجملة من المحايدين والأطراف التي اعتزلت ذلك الصراع واعتراضهم كان يقوم على ميلٍ وهوى ولم يركن الى أدلة ووقائع وحجج، فإنَّ النظرة الموضوعيَّة كانت تقضي بالقول إنَّ الحسين صادقٌ في مسعاه وطالبٌ للإصلاح، وإلا أي إنسان يسير الى حتف نفسه لولا إخلاصه الى قضيته هو الذي يدفعه لذلك؟، ناهيك عن سيرة الحسين العطرة التي عرف عنه فيها عزوفه عن الدنيا وزخارفها وطلبه للآخرة ورضا الله، كما أنَّ مقامه السامي وتربيته الدينيَّة كلها تنبئ بترفعه عن تلك الظنون.
2 - اعتراضات كانت ترى أنَّ خروج الحسين فيه هلاك نفسه واتباعه، فإنَّ خروج الحسين بتلك الثلة القليلة من الأنصار أمام جحافل السلطة وأي سلطة تلك التي لا تراعي حرمة للحسين عليه السلام ولن تتوانى في الإجهاز عليه لو وقف ضدها وأعلن التمرد عليها، والمعترضون من هذه الأطراف أرادوا بكل وسيلة إقناع الإمام الحسين بأنْ يتركَ مناجزة السلطة حفاظاً عليه «ع»، وبطبيعة الحال كان هذا النوع من الاعتراضات صادراً عن أشخاصٍ وجماعاتٍ محبَّة للحسين (ع) ويدفعهم لذلك إرادتهم لحياة الحسين (ع).
3 - اعتراضات من أولئك الذين كان جلّ همهم عيش يومهم واعتزال المتاعب والصدامات من النوع التي كان الحسين طالباً لها وراغباً في خوض غمارها، ومثل هؤلاء يطمحون للبقاء محافظين على حياتهم حتى لو كان بلا كرامة ومثل هؤلاء كانوا يشكلون الجزء الأكبر من المجتمع، وكانوا من الطبقات الوسطى والمسحوقة، وطبعاً هؤلاء كانوا الجبهة الأكثر خطورة على الإمام الحسين؛ لأنَّ منهم تخرج أبواق السلطة، ومنهم من يتهيأ المناخ لإذاعة الإشاعات وتثبيط العزيمة، وبالتالي منهم تتشكل جماعات الضغط «اللوبيات» ولربما منهم تشكل جموع للمواجهة.؟
عموماً الإمام «ع» ما كان يعير اعتباراً لكل ذلك من «اعتراضات وتحديات ومعوقات وغيرها» لأنه كان واعياً بحجم المشروع الذي نهض به والأهداف التي يتقصد تحقيقها ويعمل بكل ما أوتي من قوة وجهد على تحقيقها، وفعلاً تحمل مسؤوليَّة النهوض فيها مع صرف النظر عن العواقب المحتملة.
طبعاً مع ملاحظة أنَّه كان المخطط هو حدوث ساحة مواجهة واحدة بين الحسين والسلطة وثم يشرع الحسين بتطبيق فقرات مشروعه التغييري بسلاسة وتدرج؛ لأنَّ الإمام الحسين ما نهض من فراغٍ، بل على أساس مكاتيب ورسائل واستغاثات وصلته من أقطار الأمة الإسلاميَّة تدعوه لنصرتها.
ولكنَّ خذلان الناس له وللأسباب المعلومة للجميع كالطمع بالمال وحب السلطة والخوف منها، الأمر الذي جعلهم يتركون الإمام الحسين لوحده مع مجاميع قليلة لا تقوى مبدئياً على التطبيق الشامل لقلب الموازين وكان الحسم العسكري من مصلحة جيش السلطة، ولم يقتصر الأمر على ذاك، فبعدما انقضت المعركة ووضعت الحرب أوزارها ابتليت الأمة آنذاك بمكان الحرب الواحدة بحروبٍ وثوراتٍ وانتفاضاتٍ على السلطة وبدل خسارة واحدة تعرضوا لخسارات في سبيل أنْ يستعيدوا أنفسهم وكرامتهم المهدورة بتركهم وتخاذلهم عن
الحسين (ع).