الحسين «عليه السلام» قاتل مضطراً وليس مختاراً

ريبورتاج 2024/07/31
...

 وجدان عبدالعزيز

الحقيقة البارزة في مسار ثورة الحسين عليه السلام، أنَّه قاتل يزيد بعدما يئس من دعوات السلام المتكررة، واستند على الكتب التي جاءته من أهل الكوفة، وكل الكتب تؤكد له على البيعة، ومن هذا المنطلق فإنَّ الحسين عليه السلام اعتمد هذه الكتب وشدَّ الرحال للكوفة ليعلن رفضه لبيعة يزيد الخارج عن دائرة الإسلام بمعاقرة الخمر والسهر مع الجواري وكل سيرته تؤكد معارضة مبادئ الإسلام الحنيف.

هكذا كان مسار الحسين في المعارضة وبعدها قتاله لجيش يزيد الجرار الذي يتفوق على جيش الحسين عدة وعدداً، وهذا المعطى يوثق أنَّ الحسين اضطر للقتال لا عن معجزة إنما لمعطيات الحفاظ على قيم الدين والإصلاح بدليل قوله عليه السلام: (إنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشِراً وَلَا بَطِراً وَلَا مُفْسِداً وَلَا ظَالِماً وَإِنَّمَا خَرَجْتُ لِطَلَبِ الْإِصْلَاحِ فِي أُمَّةِ جَدِّي محمد المصطفى)، كون الحكم الأموي قد خرج على سنن الإسلام في تجويع الشعب، وصرف أموال هذا الشعب في اللذات، والرشا وشراء الضمائر، وقمع الحركات التحرريَّة، هذا الحكم الذي اضطهد المسلمين غير العرب وهددهم بالفناء، ومزق وحدة المسلمين العرب وبعث بينهم العداوة والبغضاء، هذا الحكم الذي شرد ذوي العقيدة السياسيَّة، التي لا تنسجم مع سياسة البيت الأموي وقتلهم تحت كل حجر ومدر، وقطع عنهم الأرزاق وصادر أموالهم، هذا الحكم الذي شجع القبليَّة على حساب الكيان الاجتماعي للأمة المسلمة، هذا الحكم الذي عمل عن طريق مباشر تارة وعن طريق غير مباشر تارة أخرى على تقويض الحس الإنساني في الشعب، وقتل كل نزعة إلى التحرر بواسطة التخدير الديني الكاذب، كل هذا الانحطاط ثار عليه الحسين، وبهذا صار من المحتوم أنْ يثورَ الحسين الذي تربى في بيت النبوة وتغذى مبادئ الإسلام الصحيحة، فهو قاتلَ بأمرٍ موضوعي واقعي، لكنه قاتل بعقيدة ونيَّة صادقتين وفق مبادئ الإسلام السمحاء تحت مبدأ القرآن الكريم (لا إكراه في الدين) لهذا في ليلته الأخيرة، وبعد تأكده من وقوع المعركة اجتمع بأصحابه وجنده وخاطبهم « هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً”، بمعنى أنتم حلٌّ مني، أي ترك لهم حريَّة الانسحاب من المعركة، وتسرب البعض وثبت معه البعض الآخر، فكان قتال من ثبت مع الحسين أسطورياً كونهم تيقنوا بأنَّهم مقتولون لا محالة، فكل المعطيات تشير الى أنَّ الحسين لم يقاتل عن معجزة، إنما كانت معركة الطف ضمن معطى واقعي مرهون بضرورات القتال، إذ قبل هذا كان كتبه لمعاوية حين خاطبه: (ودع عنك ما تحاول، فما أغناك أنْ تلقى الله من وزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه، فوالله ما برحت تقدح باطلاً في جور، وحنقاً في ظلم حتى ملأت الأسقية، وما بينك وبين الموت الاّ غمضة).

ونلاحظ أنَّ الإمام استخدم الطرق السلميَّة حقناً للدماء، وفي كتاب للوليد بن عتبة والي المدينة: (أيها الأمير إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة، بنا فتح الله، وبنا ختم، ويزيد فاسق، فاجر، شارب للخمر، قاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق والفجور، ومثلي لا يبايع مثله)، وهنا وضع الهدف الرئيس من ممانعته لمبايعة يزيد، مستعملاً الطرق الدبلوماسيَّة الصحيحة، وتعرية مساوئ يزيد، الذي يعرفه القاصي والداني، وهذه الحالة أظهرت الجوانب الواقعيَّة من معارضة الحسين لخلافة يزيد، كون وضع يزيد الاجتماعي والأخلاقي ظاهراً وواضحاً أمام الجميع، فلا يسمح له تولي خلافة المسلمين، فهذا الرجل أفسد وعاث ظلماً وجرماً في بلاد المسلمين، وكان العامل الثاني الملح لثورة الحسين رسائل أهل الكوفة التي بلغت الآلاف يحثون الحسين بالقدوم لأجل مبايعته كما أسلفنا.

وهكذا يتبدى لنا من خلال هذه الرسائل أنَّ الحسين من دعاة السلام، لكنه رجل غير عادي، يشار له بالبنان وعليه مسؤوليَّة القيام بالمهمة، لهذا طلب الإصلاح.

ودليلٌ آخر هو خطاب زهير بن القين (رض)، أحد أصحابه في ساحة المعركة: (ياأهل الكوفة نذار لكم من عذاب النار نذار، إن حقاً على المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حتى الآن أخوة على دينٍ واحدٍ وملة واحدة ما لم يقع بيننا وبينكم السيف، وأنتم للنصيحة منا أهل، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة، وكنا نحن أمة وأنتم أمة..).. إذن كل ثورة الحسين قامت على السلام والأخوة والنصيحة، وعلى مبدأ قرآني واضح تجلى بالآية الكريمة: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)، والأهم من هذا أنَّ دعوة الرسول والخلفاء ولبة الإسلام، هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم أنَّ هناك أمراً وهي وصيَّة معاوية ليزيد بأخذ البيعة من الحسين أخذاً شديداً ليس فيه رخصة، أي بالقوة، وكان ردُّ الحسين حينها بقوله: (ومثلي لا يبايع مثله)، هذه الأسباب الموجبة التي دفعت الحسين “ع” أنْ يقارع جبروت الظلم والعدوان والفسق والجحود لرسالة محمد “ص”، هذه الرسالة الإنسانيَّة التي استثمرت كل رسالات الأديان السابقة بجعل الإنسان هو القيمة العليا التي أوجدها الله في الأرض وسخر لها جميع مخلوقاته، فهل تستقيم الحياة بالظلم والكراهيَّة؟، أم بالسلم والحب؟، فكانت دماء الحسين “ع” هي التي سقت شجرة محمد المغذاة بالعدالة والحق والرحمة، فاخضّرت أغصانها وعادت عافيتها وأصبح الحسين عنوان محبة وثورة متجددة ضد الطغاة، واستثماراً فكرياً وأدبياً إنسانياً.