نقد الخطاب المهيمن

آراء 2024/08/01
...

علي المرهج

هو خطاب يتحرك من جهة واحد إلى جميع الجهات بقصد إلغاء الأبعاد، لأنه خطاب يحتكر الحقيقة، وبالتالي هو خطاب سلطوي، ويحسب أن كل خطاب معارض إنما هو خطاب مشكوك في نواياه، بل وفي ما يؤدي إليه من ممارسات تُخالف الخطاب السائد أو المُهيمن.
الخطاب المهيمن في الأغلب الأعم خطاب إطلاقي شمولي «توتالي» يحتكر اليقين، ويجعل من الإنسان أي إنسان رهين هذه الإطلاقية أو الشمولية.
الخطاب المهيمن خطاب وثوقي لا يمنح مساحة للآخر المختلف إلا بمقدار ما يدعيه أصحابه بأنهم متسامحون، وكأن التسامح عندهم منة على هذا الآخر المختلف، يصدر من الأقوى وعلى الاضعف القبول به وبالشروط التي يضعها الأقوى.. هو في مضمونه خطاب غلبة لا خطاب تعايش.
من وجهة نظري، الذين يملكون الخطاب المهيمن، هم في قرارة أنفسهم يعتقدون أنهم متفضلون على الآخر المختلف معهم في الدين والمذهب، وهم أعلى مرتبة شرفية منه، وقبولهم لوجوده إنما هو تكرم منهم لفض النزاع، وأحيانًا لتوازن العنف بين الطرفين في الدعم الخارجي، ولكن تجد الطرف المهيمن يتهم المخالفين له والمعارضين بأنهم مدعومون من جهات خارجية، فتجده يُعيب ويؤاخذ الأقلية في بحثها عن دعم خارجي، ويحسب علاقاته الخارجية نوعًا من أنواع التعاون أو التخادم.
قد يمارس الخطاب المهيمن سلطة الاقصاء للمختلف لأنه أغلبية في السلطة وفي الشارع أحيانًا، لذلك تجده يملك كثيرًا من أقفال غلق الدائرة على المختلف معه، ولكنه يمتلك في الوقت نفسه مفاتيح لها لمن يهادنه ويقبل خطابه ويطيعه تابعًا.
يستعين الخطاب المهيمن بكل آلية السطوة والغلبة في حال تمكنه من السلطة ويجعل الدين والمذهب والقبيلة والسياسة والاقتصاد في خدمته ليُطيل عمر بقائه مهيمنًا.
تجده يرتكن للخطاب الوعظي ويُهمش الخطاب البرهاني المنطقي، ويعمل على تنمية الخطاب «التلقيني» الذي يجعل الجمهور والمجتمع متلقون لا قدرة لهم على التفكير النقدي، لأن كل هَمّ أصحابه هو العمل على جعل المجتمع، بعيدًا عن إدراك مراميه في التسلط والهيمنة.
من ميزات اصحاب هذا الخطاب هو اللعب على عواطف جمهورهم وتكريس الجانب الغيبي (الجواني) عندهم والتأكيد لجمهورهم هذا، إنما هم جاؤوا لإحقاق الحق الذي لا تعريف واضحا له إلا باستنهاضهم هذا الجمهور وتذكيره برموزه التاريخية، التي ضحت بكل غال ونفيس لأجل إصلاح أمر هذه الأمة، ليزرعوا في نفوس هذا الجمهور فكرة أنهم إنما جاؤوا لاستكمال مسيرة هذه الرموز، ولكن حينما تجلو الغمة عن هذه الأمة يجد الجمهور أن هؤلاء لا في طريقة عيشهم ولا في تفكيرهم يشبهون هذه الرموز في شيء، وما يُميز هؤلاء أنهم تمكنوا من خداع الكثيرين، ولكن كما يُقال (حبل الكذب قصير).
كل خطابات الدكتاتوريارت المقيتة وفي مقدمتهم خطابات البعث الصدامي كانت ترتكن لهذا النوع من الخطاب، وكلنا يتذكر (الحملة الإيمانية) لصدام الذي سمى نفسه «عبدالله المؤمن»!.
وللأسف كثير من أحزاب المعارضة له ولنظامه التي صارت سلطة فيما بعد لم يختلف خطابها عنه.
الخطاب المُهيمن خطاب سكوني (مُحافظ) يخشى التجديد، وإن كان أصحابه قبل وصولهم للسلطة يدعون أنهم الممثلون لهذا الخطاب التجديدي، ولكنهم بعد وصولهم للسلطة يكون حالهم كحال من انتقدوهم وحاربوهم وعارضوهم، لا يقبلون كل نزعة تجديدية مخالفة ويُحاربونها، بل ويُشككون في كل متبنياتها..
الخطاب المهيمن خطاب سلفي يرتكن للماضي ويجعل الحاضر والمستقبل زمنين يخدمان هذا الماضي ويستجيبان لمتطلباته.
الماضي عندنا هو الذي يعيش ويطول عمره بمقدار ما يكون للسلطة عمر ولخطابها حضور وإن تبدل الممثلون لها.
الخطاب المهين وإن أظهر صاحبه أنه خطاب معتدل ومتسامح، إلا أن في (المسكوت عنه) يحمل بين طياته أو في بنيته الضامرة نزعة لاحتكار التعبير عن الحقيقة، رغم ما في ظاهر الخطاب من تصريح بقبول للآخر المختلف، لا بوصفه مشاركًا له في تصور الحقيقة والاعتقاد بها، بل بوصفه إنسانا يشاركه العيش في مجتمع مثل مجتمعاتنا.
صاحب الخطاب المهيمن يجعل من نفسه حارسًا للحقيقة، لأنه معروفة عنده سلفًا ولا يحتاج إلى كثير من  النقاش ومن لا يعتقد بها مثلما هو يعتقد سيتحمل وزر ما أقدم عليه من ارتكاب معصية!.
في كتابه (الذات عينها كآخر) يؤكد لنا (بول ريكور) نقده لفكر ديكارت، فحينما يميز ريكور بين مفهوم الهوية الثابتة والهوية الذاتية، يؤكد لنا أن الهوية الثابتة هي الهوية المطابقة والساكنة، بينما الهوية الذاتية، تُشكلها الحياة وعلاقتنا بالعالم والآخر.
الهوية الذاتية مجمل تجاربنا الحياتية التي تشكلت وفق معاناة وتحديات عشناها، أي أن الذات عند ريكور هي التي تعيش وتُعاني، حتى رفض الآخر يؤكد لنا أن هذا الآخر حاضر وفاعل في رفض وجوده..