فضاء السرد الأنثويّ

ثقافة 2024/08/01
...

 محمد صابر عبيد

من وصيّة الجاهليّة أمامة بنت الحارث لابنتها أمّ إياس بنت عوف الشيبانيّ عند زواجها: (كوني له أمة يكن لك عَبداً). يعد فن الوصايا من الفنون السرديّة العربيّة القديمة ذات الأثر البالغ في الكشف عن طبيعة العقل العربيّ والبلاغة العربيّة، وعلى الرغم من أن الفن الشعريّ العربيّ القديم ومعظم فنون السرد العربيّ القديم كانت حكراً على الرجال -إلا ما ندر-، فإن نصوصاً سردية استثنائيّة على الأغلب هي التي فلتت من عنق الزجاجة الذكوريّة وعبّرت عن فضاء أنثوي قولاً ومعنى، ومنها هذه الوصيّة الأنثوية التي تبدو فيها الذكورة لاحقة لها، أو مذيلة بها، أو تنمو تحت ظلالها بدرجة تنوير أنثوة عالية ومثيرة.
تمثّل الوصيّة الأنثويّة في هذه البؤرة السرديّة البالغة الخصب والغنى والثراء والبلاغة منها خطاباً عالي الاقتصاد والاختزال والإيجاز والاكتظاظ اللغويّ والتركيز العلاميّ الفائق، تختصر حياةً زوجيّةً كاملةً من أوّلها إلى آخرها، بلا تفاصيل سرديّة ظاهرة بل بموحيات هائلة تشعّ من داخل فضاء الجملة وتخومها وظلالها وزواياها، وتحيل على مستويات عديدة تتدخّل في جوهر الحياة الحبيّة بين الزوجة والزوج، إذ تتكشّف لسانيّة الجملة -بحسب خطاب الأمّ- عن أنّ أداة السيطرة والهيمنة هي بيد الزوجة أوّلاً، فحين تتمكّن من فرض أنموذجها على هذا النحو يكون بوسعها تسيير أمور العلاقة بينهما داخل هذا المسار، والزوج في هذه الرؤية الضاربة في طغيانها لا بدَّ أن يستجيب ويتشكّل على وفق مقتضياتها. تتجلّى في أعماق هذا الخطاب صورتان متلاحمتان تفترقان وتندمجان في لحظة واحدة لا يمكن رصدها أو القبض عليها بسهولة، واحدة منهما عموديّة والأخرى أفقيّة، الصورة العموديّة تنطلق من الأعلى في المرتبة (الأم) إلى الأدنى في المرتبة (الابنة)، بكلّ ما تتكشّف عنه هذه العلاقة بين الأعلى والأدنى من فضاء وثقافة وتربية ومرجعيّة وتقاليد وقيم وحقوق وواجبات، على نحو واجب التنفيذ والاستجابة بحكم الخبرة والمعرفة والتجربة المقبلة بحرص ومحبّة وضرورة من الأعلى نحو الأدنى، وبحكم الطاعة والامتثال والثقة المرتدّة من الأدنى إلى الأعلى دليلاً على تكامل الفكرة وحيويّة الخطاب.  أمّا الصورة الأفقيّة فهي صورة الخطاب العابر لمحدوديّة الفضاء داخل المسافة الإنسانيّة الكليّة العامّة للوصيّة، إذ هو خطاب من الأمّهات كلهنّ إلى بناتهنّ كلهنّ، خطاب يتجاوز الأزمنة والأمكنة والثقافات للوصول إلى حالة توافق مثاليّة استباقيّة بين الزوجَين، وإذا كانت الطبقة القشريّة من الخطاب تحيل على دلالة ذات طبيعة اجتماعيّة وثقافيّة على العموم، فإنّ الطبقة الجوّانيّة تحيل على دلالة إيروتيكيّة تتدخّل في جوهر الصلة الرابطة في عملية الزواج، وثمّة ترابط وثيق جدليّ بين الطبقتين، لكنّ الانبثاقة السيميائيّة الأكثر تحققاً في فضاء المعنى ترتبط بالدلالة الإيروتيكيّة.
ينطوي خطاب الوصيّة على معنى كينونيّ عميق ذي طابع فلسفيّ كثيف تشتغل دوالّه كلّها اشتغالاً حركيّاً لافتاً، ففعل الشرط المسند إلى ضمير المُخاطَبَة (كُوني) يحمل معنى التغيير الشامل في الهيئة والرؤية والفعل والسلوك والحلم، وهو يتحرّى قيمة أمريّة متعلّقة بدلالة الوصيّة، ولعلّ "أُمامة" الأم هنا لا توصي ابنتها على وجه التحديد بل تأمرها على نحو ما، وفعل الكينونة الأمريّ هنا هو فعل تغيير شامل لبلوغ حياة أخرى يختلف فيها كلّ شيء، لذا فإنّ الفعل يحتشد بطاقة انتباه عالية تضع صاحب الخطاب (أُمامة)، والمُخاطَبَة (ابنتها)، والخطاب نفسه، في حالة الانشداد والتمثّل والحضور، يعقبه الجار والمجرور (له) في إحالة على الآخر (الذكوريّ) حيث يجري تصغيره واختزاله إلى ضمير متّصل مجرور بحرف جرّ، بمعنى أنّه مهما كان ضئيلاً فثّمة وجوب عليها أن تستجيب لحاله وتكون (له)، وهذه الصيغة (له) تحيل على علامة تملكيّة استحواذيّة يتعالى فيها المعنى الإيروتيكيّ أكثر من المعاني الأخرى، ومعنى الصيرورة الموافق للمعنى الإيروتيكيّ أيضاً، وإذا ما قرأنا الجملة كاملةً (كُوني له)
فإنّ المعنى الإيروتيكيّ يتفتّح أكثر ويستجيب بعمق لرؤية التملّك والصيرورة الذاتيّة الخاصّة.
حين نصل إلى دالّ (أمةً) فإنّ المعنى الإيروتيكيّ يتوسّع ويتركّز ويتشكّل على نحو أكثر حضوراً وقيمة وتنويراً، فمن معاني الـ (أَمَة) المعروفة (الجارية/ المملوكة/ الخادمة)، وثمّة معنى خاصّ لكلّ دالّ منها، وعلى الرغم من أنّ معنى (مملوكة) قد يكون هو الأظهر هنا توازياً مع دالّ (عبداً) من أجل تحقيق صورة الموازاة الأسلوبيّة، غير أنّ الطبقة العميقة من معنى (الوصيّة) يحيل أكثر على دالّ (الجارية)، بحكم الدلالة السيميائيّة التي يختزنها الخطاب في مستوى أصيل وحيويّ من مستوياته، إذ (الجارية) تسعى إلى إرضاء سيّدها في كلّ ما يطلب، وفي مقدّمة طلباته الإرضاء الجنسيّ، وهو ما تزوّده لنا الكثير من المرويات التاريخيّة والأدبيّة والثقافيّة على مرِّ العصور ولدى الكثير من أمم الأرض.
جواب الشرط (يكنْ) يلتئم إيقاعياً على كينونة فعليّة ضاغطة باتجاه الصيرورة والاستجابة السريعة القصوى لفعل الشرط (كُوني)، ولو حاولنا إجراء موازنة إيقاعيّة بين فعل الشرط (كُوني) وجواب الشرط (يكنْ) سنجد الفرق واضحاً، فصوت (الواو) في (كُوني) صوت ممدود يأخذ مساحة زمنيّة وصوتيّة واسعة تتلاءم مع حاجة (المُخاطَبَة) للتحوّل والتغيير من حال إلى حال، وهي حاجة فعليّة تحتاج إلى وقت ليس قصيراً من أجل استيعاب الحياة الجديدة بطبقاتها وحيثياتها والتزاماتها كلّها، على نحو تكون فيه قادرة على تكون (أمةً) كما أرادت أمّها، إلّا أنّ الآخر (الرجل) الغائب هنا لا يحتاج هذا الوقت كي يصير (عبداً) لأَمَتِهِ، إذ هو بمجرّد أن يرى كينونة امرأته وقد تحوّلت إلى (أَمَة) سرعان ما يستجيب كي يكون (عبداً)، لذا يأتي جواب الشرط (يكنْ) شبه مقفل من حيث بنيته الإيقاعيّة عن طريق علامة السكون التي تُوقِف صوت النون وتحجّم امتداده الإيقاعيّ، على العكس من انفتاح البنية الإيقاعية الواسع لـ (كُوني) بمدّ صوت الواو إلى أبعد مدى إيقاعيّ ممكن، ويعكس هذا التباين الإيقاعيّ الزمنيّ اختلافاً مقارباً في البنية الدلاليّة.
يهيمن فضاء الأنوثة على حركيّة السرد
في هذا النصّ البليغ؛ إذ إنّ الراوي "الأم" أنثى والمروي له "الابنة" أنثى أيضاً،
في حين لا تحضر الذكورة إلّا بوساطة ضمير الغائب المتّصل "له" مرّة والمنفصل في أخرى "يكن" فقط، وهي تحضر على هذا النحو بوصفها كياناً مُلحقاً بالأنوثة يكون -اضطراراً- على النحو الذي تكونه الأنوثة، فالأنوثة تحتلّ منطقة فعل الشرط "كوني" في حين تحتوي الذكورة منطقة جواب
الشرط "يكن"، ضمن معادلة "جندريّة" يتفاعل فيها المعنى الثقافيّ مع المعنى الحسّيّ في ثنائيّة سيميائيّة ورمزيّة شديدة التركيز والتمثيل.