عدنان الفضلي
مع أنّه انطلق في عالم الأدب من بوابة الشعر وكتابة القصة القصيرة، إلا أن التشيلي "إيرنان ريبيرا لتيلير" ما كان معروفاً ومتميزاً قبل دخوله عالم الرواية، فقد حقق شهرة واسعة من خلال رواياته "الرجل الذي حدّق في السماء"، و"العصامي"، وراوية "الأفلام "التي أنا بصدد استعراضها هنا.
في هذه الرواية يضعنا الراوي قبالة فتاة صغيرة "ماريا مارجريتا" تسكن في إحدى قرى تشيلي، تتميز بقدرة هائلة على الروي، خصوصاً رواية قصص الأفلام التي تشاهدها في سينما القرية، حيث تجمع عائلات تلك القرية ممن لم يشاهدوا الأفلام وتبدأ بسرد أحداث الفيلم الذي تشاهده مقابل أجر مادي جيد صارت من خلاله تعيل أسرتها الفقيرة. الرواية التي قام بترجمتها المترجم المعروف صالح علماني تغور في أعماق الطبقة المسحوقة من عمال مناجم ملح البارود، حيث يحتشد البؤس والتهميش والإهمال والفقر المدقع، فالراوي يصوّر لنا واقعاً موجعاً لبيوت الصفيح "التوتياء" التي يسكنها العمال، ويتركنا في وسط المجتمع المتمثل في الموظفين الذين يسكنون بيوت الطين، بينما يقف في أعلى الهرم اصحاب رأس المال الذين يمتلكون المناجم "الغرينغيين" الأجانب، وفي هذه الصور التي يصفها لنا "إيرنان" بلغة سحريَّة رائعة ليمنح المتلقي فكرة عن المجتمعات المسحوقة، ويعرفنا كيف تسحق بسبب الفوارق الطبقيَّة والتمييز الطبقي العنصري.
نعود لبطلة الرواية "ماريا" التي صار سكان القرية يجمعون لها المال ويطلبون منها أن تذهب الى السينما وتعود لتحكي لهم قصة الفيلم، إلا أن هذه الطفلة صارت تختلق قصصاً من خيالها تضعها في أحداث الفيلم لتضيف سحراً للقصة الأصلية التي جاءت في الفيلم، فهي تضيف عوالم من الحب والمغامرات المشوّقة، كون "ماريا" تعرف بأن هذه العائلات الفقيرة تريد أن تسمع أو تتخيل عوالم وهميّة يسودها الحب والأحلام والمغامرات العاطفيّة، حتى ولو كانت الحكاية محض خيال.
الراوي وعبر "فلاش باك" يعود بنا الى تأريخ العائلة التي تنتمي لها "ماريا" التي نشأت في منزل تطغى عليه الثقافة الذكوريَّة، بوجود الأب وأربعة أشقاء، لذلك صارت تعيش أو تتعايش مع هذه الثقافة وصارت تقلّدهم في كل شيء، حتى في طريقة تبولها "واقفة".
عائلة "ماريا" مثلها مثل بقية العائلات المسحقوقة لم تكن ترتاد السينما بشكل دائم، فهي عائلة تعيش بالكاد متدبّرة أمر طعامها، فهي كمثال على ذلك لم تمتلك سوى كرسي واحد كما تصفها الرواية، لكن "ماريا" هي وحدها من لا تتخلى عن مشاهدة أي فيلم يعرض في سينما القرية، بسبب الوله في هذا العالم حيث تقول في الرواية "الفرق بيني وبين أخوتي أن السينما كانت تثير فيّ وفي أمي الجنون".
ذاعت شهرة "ماريا" كراوية مبدعة للأفلام، وصار الناس يأتون إلى بيتها للاستماع إليها وهي تقصّ عليهم قصصها الممزوجة بتخيلات رائعة. وكانت لها القدرة، كما كان يحلو لوالدها أن يردد، "أنها تسرد الأفلام بالألوان وبشاشة سكوب" وبسبب ذلك تحوّلت غرفة المعيشة في بيت العائلة إلى صالة سينما صغيرة.
تتواصل أحداث الرواية وشهرة الطفلة "ماريا" صارت تتوسع فقد صارت مطلوبة لدى العائلات الميسورة مادياً لتروي لهم قصص أفلامها، وصار المردود المادي للعائلة يتعاظم، لكن الأب المعاق والمدمن كان يسرف فتضيع الأموال وتعب الطفلة هباءً.
في الفصول الأخيرة من الرواية يبدأ الفعل الفلسفي للكاتب حيث يطرح فكرة فلسفية مفادها "قد تكون بداية الشهرة هي بداية الأفول والتلاشي، حيث يبدأ الراوي بصياغة ذلك التلاشي عبر شخصية "عجوز مرابي" يعرف بقصة تلك الفتاة المذهلة وكيفية كسبها للمال، فيعجب بها ويبدأ باستدراجها والاعتداء عليها، فتشعر "ماريا" بالعار وتذهب لإخبار أحد أشقائها بما حدث لها مع المرابي، لكن شقيقها يلتزم الصمت، ثمَّ في يوم آخر ينتشر خبر مقتل ذلك المرابي في ظروف غامضة ومن دون أن يهتم أي شخص في القرية لهذه الحادثة.
من وجهة نظري أن الراوي دفع لنا هذا المرابي في متن الرواية ليشير الى جشع الأنظمة الرأسمالية وكيف يسيطرون على حياة الفقراء واستغلال فقرهم وقلة أجورهم ليدفعونهم الى الاستدانة بنظام "الربا" كما يضعنا قبالة كيف يحمي "الدرك" هؤلاء المستغلين عبر توظيف شخصيات عسكرية تقوم بدور حماية الأنظمة الفاسدة.
مع اقتراب الرواية من نهايتها تبدأ مرحلة من الانهيارات في عائلة "ماريا" حيث بموت الأب كمداً بعد أن هجرته الزوجة التي يراها خائنة، ثم يموت أحد الأشقاء بعد أن تصدمه عجلة جمع القمامة. ثم شقيق آخر يصاحب أرملة تكبره بالعمر، يسافر معها إلى مدينةٍ بعيدة ويغادر الشقيق الثالث إلى العاصمة مع فريقٍ كرة قدم أعجب بمهاراته، أما الأخ الأكبر فيصير مدمناً على الشراب وفي لحظة سكر يتبجّح بقتله المرابي فيودع السجن لتبقى ماريا وحيدة.
في الفصل الأخير يحدث ما لا نتوقعه حيث يجعلنا الكاتب نصدم بمشهد مؤلم يتمثل في وصول فريق سيرك الى القرية، وكان يضم والدة "ماريا" والتي كانت هاربة من زوجها، حيث تعود بعد سماعها بوفاة الزوج وكانت تعمل كراقصة في السيرك، لكن "ماريا" ترفض مقابلة والدتها، لأنها لا تريد رؤية أمها وقد صارت راقصة في سيرك، لكن الأم تمتلك رغبة ملحة لرؤية ابنتها فيصف لنا الراوي حينها لحظة وقوف الأم والابنة عند الباب وهما غارقتان بالدموع، ثم مشهد انسحاب الأم بعد رفض البنت رؤيتها على هذا الحال من الانكسار. ثم انتحار الأم بعد مدة قصيرة.