الإشعاع الإيماني تذوق جمال واستغراق في حب

ثقافة 2024/08/04
...

 سبعينية الرفاعي

أصعب مهمة يمكن أن يتعهد بها إنسان، هي إتيانه بجديد في مورد يباشره الناس كافة. الناس تتكلم بأجمعها، لكن من يجعل كلامه، مجرد كلامه فناً سيكون قد راهن على المحال وكسب.

المؤمنون بما يفعلون لم يجترحوا مواضيعهم من عدم، بل فتشوا أولا وقبل كل شيء عن الجديد فيهم، عن النادر الذي يستوطنهم ثمّ أضاؤوا العالم من حولهم فبدا غضاً كأن ولد للتو.

تحل هذه الأيام الذكرى السبعون لولادة المفكر العراقي عبد الجبار الرفاعي. سيكون أمامنا درسه الأجلى: أنه جعل من موضوع تناوبت عليه الأفهام قديماً وحديثاً حاضراً كما لو أنه بكر ابن يومه، وجعل من موارد يظنها الآخرون قد بليت دالة بعمق على رهانات الحاضر.

هل يمكن أن يصبح علم الكلام جديداً؟ وهل بمقدورنا التقاط النزعة الإنسانية من اشتباك العقدي بالفقهي في المدوّنة الدينية؟ وهل بإمكان الإيمان أن يغدو قنطرة للتلاقي، بدلا من أن يكون سياجاً لتحديد الملكية ورسم معالم الهوية؟

هذه الأسئلة وسواها هي مؤونة الدرس الرفاعي، الذي استغرق الجزء الأوفى من عمره، الذي بلغ اليوم سبعين ربيعاً، فسنوات الفكر ربيع كلها.

سنحتفل بسبعينية الرفاعي هنا في{الصباح} بطريقتنا الخاصة. سنخصص يوم الأحد من كل أسبوع صفحة تحت هذا العنوان {سبعينية عبد الجبار الرفاعي}، داعين الزملاء والزميلات للكتابة فيها.

كل سنة ومفكرنا الأستاذ الرفاعي بوافرٍ من الحياة والكشف.
رئيس التحرير


عبد اللطيف الحاج اقويدر*
صدى صوتِ الألماني فريديريك شلايرماخر (1) (1768ـ 1834) يتردَّدُ بين جنبات السلسلة الخماسيَّة (2) للدكتور عبد الجبار الرفاعي، فلئنِ اعتمد الرفاعي في كتبه السَّبعة والأربعين القديمة على لغة المنطق والعلم والفلسفة يخاطب العقل، ويشيِّد الفكر، ويبني صروح علوم الأصول والفلسفات والمنطق. فلقد لجأ في كتبه الخمسة الأخيرة إلى لغة الحدس والشعور يخاطب القلب والوجدان والروح، مثلما خاطب شلايرماخر قلبَ ووجدانَ وروحَ النخبة الألمانيّة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في مؤلَّفه "عن الدين: خطابات لمحتقريه من المثقفين"، الذي أصدره مركز دراسات فلسفة بترجمة أسامة الشحماني، عن النسخة الألمانية الأصلية المنشورة 1799 في عصر شلايرماخر. 

كانت لغة السلسلة الخماسيَّة لغةً شاعرية بويطيقية خالية من الحمولات الاصطلاحية والتَّعقيدات المفاهيميَّة، وأتتْ موضوعاتُها من راهن ما يعيش إنسانُ هذا العصر وظروفه المتشابكة المعقَّدة ممَّا لم تختبره المعرفة الدينيّة التاريخيّة. يحدثك فيها رجلُ الدين عن دين الحبِّ والتراحم، وعلاقات الحبِّ والتراحم، ولغة الحبِّ والتراحم، والتَّفكيرِ بالحبِّ، والتَّعامل بالحبِّ والتراحم، وإملاء وعاء النيَّة حبّاً: "الحب يضيءُ الحياة بمعناها الأجمل، ويبدِّد وَحشة الكائن البشري وغربتَه فيها. الظمأ البشري للحب حاجة لا تتوقف ولا تنتهي"(3)، و"الرحمةُ صوتُ الله، ومعيارُ إنسانيَّة الدِّين. لا يؤتي الدينُ ثمارَه مالم يكن تجربةً إيمانيّة تنبضُ فيها روحُ المؤمن بالرحمة. الرحمةُ بوصلةٌ توجِّه أهدافَ الدين، فكلُّ دين مفرغ من الرحمة يفتقدُ رسالته الإنسانيّة، ويفتقرُ إلى الطاقة الملهمة لإيقاظ روح وقلب وضمير الكائن البشري"(4). هذا لعمري جديدٌ في لغة الدِّين، ولغة الفقهاء ومنهم الرفاعي، ومطارحات المتديِّنين، فلغتهم وأسلوبهم ومصطلحاتهم وطرائق عروضهم ترسَّبت عليها أثقال وأسمال موضوعات ومدوَّنات القرون الطويلة، لا تتبدَّل ولا تجد لها طريقاً إلى الحلحلة، وهذا الرفاعي يغرِّدُ في كتبه الخمسة الأخيرة خارج السَّرب بلغةٍ وأسلوب وطريقة عرضٍ جديدةٍ غير مألوفةٍ، تشدُّ انتباهك وتجذبُ لبَّك، فتقرأ ثم تقرأ ثمَّ تتماهى مع سمفونية أدائه.

 يحدِّثُك من غير كلَفٍ ولا تمحُّلٍ عن فضاءات الجمال والحب والفن الرحبة، وتتقاطع كلُّها عنده مع جوهر الدين، فالفنُّ "لغةُ الرُّوح قبل العقل، لغة القلب قبل الفكر" (5)، وعزيزٌ عليه ألا يجد في مجتمعاتنا نصيبَها من تذوق الجمال أو الإحساس به: "تذوقُ الجمال، حالةٌ وجوديَّةٌ كتذوق الحب والإيمان"(6)، وَيدلُّك على كيمياءٍ وجدانيّةٍ للجمال الذي: "لا يجدُ ناطقاً بصوته، أجمل من لغة الفن" (7). 

يُبْنَى الإشعاعُ الإيماني الإنساني في مشروع الرفاعي على دعائم ثلاثةٍ: تذوق جمالٍ، واستغراق في حب، وتعبير بفنٍّ، ويُعْلِمُك أنَّ ضميرِه الديني قائمٌ على دعائم ثلاثة "إيمانٍ وأخلاقٍ وإنسانية" (8). 

هجرة جبران خليل جبران من لبنان إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وما قام به من عملٍ مزجي وتركيبي بين الثقافتين العربية والأنجلوسكسونية، كان وراء روائعه الأدبية والفنية، وهجرة عبد الجبار الرفاعي من العراق إلى إيران وما قام به من عملٍ مزجي بين الثقافتين العربية والإيرانية، مضيفاً إليها مَزْجَ مدوناتٍ تراثية (كلامية وفقهية وعرفانية)، ومدوَّناتٍ معاصرة (فلسفاتٍ وهرمنيوطيقا، وعلوم ألسنية ونفسٍ واجتماعٍ ومقاربات دلالية)، وخلاصاتِ مطالعاتٍ أدبية وعلمية وفكرية متنوعة.. كان وراء تلك العصارة الفسيْفسائية التي تحْكي خريطة سيرِ الإنسان نحو تجانسه مع نفسه وإلهه وبني نوعه ومع محيطه الكوني، برؤية رفاعية، ولغة رفاعية، وطريقةِ عرضٍ رفاعية. 

ربما قد تجدُ الأمرَ عادياً إذا ملأ عينَك مثقفٌ حداثيٌّ متميِّزٌ بكمِّ معلوماته ودقَّة تشخيصه وعمق تحليله وتنويع وسائله، أمَا وأنْ يُجِيدَ رجلُ الدِّين هذه التَّوليفةَ، وأن تكون هذه زاوية نظره، فنحنُ أمام عهدٍ جديدٍ من رجال الله الدّالِّين على الله بغيرِ لغة التراث، ومدوّنة الفقهاء العتيقة. 

افتقرتِ السَّاحة الثقافية العربية على شساعتها وتنوعها، إلى المواضيع التي تناولها الرفاعي في سلسلته الخماسية، من مثل الرؤية الأنطولوجية للدين التي يقول عنها: "الكتاباتُ العربيةُ التي تدرس الدين في بعده الأنطولوجي شحيحةٌ" (9). 

يسعى الرفاعي إلى أن تكون غايةُ مشروعه: "تحقيقَ السعادة" للإنسان، وتكمنُ سعادة الإنسان في شعوره بأنَّه محبوبٌ لذاته، وأغلبُ ما يكون شقاءُ الإنسان نابعاً من الإنسان، لا عن تعمُّدٍ بل عن غفلةٍ وأحياناً عن قلَّة ذوقٍ، فتتوتَّر العلاقات وتتشنَّج وتتصلَّبُ بلا سببٍ وجيه، لذا يحدثك الرفاعي ويستثمر في مثل هذه الحال في "الذكاء العاطفي"، يراه عقلاً ذكيّاً في إدارة العلاقات، بما لا يُزعج الآخر، وـ يعلِّمك ـ إتقان الكلمات الدَّافئة، والمواقف الأخلاقية في التعامل مع الناس (10)، ويُصحح الرفاعي بالذكاء العاطفي حقيقة الإنسان العاطفي الذي هو ليس بالضَّرورة الذَّكيُّ العاطفي، فقدْ يكونُ العاطفي فجّاً سليطَ اللسان (11)، بخلاف الذكيِّ العاطفي الذي له اللَّباقةُ العفويَّةُ، والكلمةُ البلْسمُ... يحدِّثُك عن هذا عبد الجبار الرفاعي رجلُ الدين، أو المثقفُ الديني كما يرتئي أن يسمِّيه، يحدثك بسلاسةٍ وتمكُّنٍ كأحدِ الاختصاصيين النَّفسانيين ثمَّ في الوقت نفسه يحدثك كأحد رجال القانون، فهو وإنْ أطلق العنان لتنمية المشاعر والعواطف وتشذيبِها عبر الذكاء العاطفي، فإنَّه أيضاً يستحضرُ وعيَهُ الصَّارم في المواقف الحادَّة التي تتطلَّبُ الكيَّ، فيقول: "لا تتأسَّسُ المجتمعاتُ والدول على الحبِّ وحده، أو الرَّحمة وحدها، أو الشفقة وحدها، أو العطاء وحده. لا تعني الدعوة للحب إلغاء النظم التربوية والتعليمية والإدارية والقضائية والسياسية، ولا النظم والقوانين لبناء الدول.. لا تعني الدعوة للرحمة إلغاء القوانين الجنائية والجزائية"(12)، فهو يتماهى مع العاطفة الإنسانية، ويريدُها أصلاً في العلاقات الإنسانية، لكنَّه واعٍ بالطبيعة البشريَّة التي تجنح للتمرّد، فيُلجمها حينئذٍ بالشريعة والقانون والأنا الأعلى.. هذا هو الأنموذج الجديد النادر ندرة المعادن النادرة؛ ولذا فقد ارتفعت شهاداتٌ واعترافاتٌ لأساتذةٍ وأكاديميين ومثقفين تُقرُّ بأصالة منجز عبد الجبار الرفاعي، فهذا الأستاذ الدكتور عبد الجبار عيسى السعيدي يقول: وقد كتبت للرفاعي ذات مرة منوهاً بقدراته الإبداعيّة: (لعلِّي لا أبالغ إن قلت بأن عملكم الكبير"الدين والظمأ الأنطولوجي" يتمثل في كونه واحداً من أهم تمثلات الحكمة والعقل المعاصرين. إن لكل زمن تمثلاته الفذة، هذه القاعدة التي لا يريد البعض، لضعف أو لحسدٍ، أن يقبل بها، فالحكمة لم تنتهِ عند ابن عربي أو ابن رشد أو ملا صدرا) (13)، وهذه الدكتورة حميدة القحطاني تقول عن قراءتها كتب الرفاعي: "تنعش روحي وتلامس قلبي وتثير فكري وتساعدني على إيقاظ ذهني"، وتقول: "أقرأ كتب الرفاعي على الدوام كي أرفع مؤشر المعنى في أيامي" (14)، ويرى الأستاذ مشتاق الحلو أنَّ منجز الرفاعي ومشروعه يمثل منهجاً متكاملاً وطريقاً ثالثةً مستقلَّةً في الرؤيا، يقول: "الرفاعي صاحب التفسير الثالث والبديل الديني المختلف عن تفسير الحوزة، وتفسير الجماعات الإسلامية للدين" (15)، أما الدكتور محمد حسين الرفاعي، فشهد بأنَّ منجز عبد الجبار الرفاعي ثورة فكريَّة في الخطاب الديني، من داخل الخطاب الديني، وشبَّهه بِـ "ابن حيان التوحيدي" في التصوف العقلي أو العرفان الفلسفي (16)، وأما الدكتور ياسر عبد الحسين فقد خلع عليه لقب "سبينوزا" في مقال له بعنوان: "سبينوزا العراقي: إعادة بناء مفهوم الوحي عند الرفاعي"، نشره في موقع "مؤمنون" بتاريخ 09. 11. 2022.

أخيراً، في عام 2014، حلَّ عيد الميلاد الستِّين لعبد الجبار الرفاعي، فخصَّصت مجلة "الموسم" (17)، كتاباً تذكارياً تكريماً وعرفاناً بجهوده وإنجازاته في 757 صفحةً، تضمَّنتْ 105 مقالاتٍ من باحثين وأكاديميين وكُتَّابٍ من مختلف الاختصاصات، ومن مختلف الأوطان العربيّة والإسلاميّة، تشيدُ بعمل الرفاعي وإضافاته النوعية للفكر العربي والإسلامي المعاصريْن، ويحتضنُ هذا العام 2024 ذكرى ميلاده السَّبعين آملين من الله الكريم أن يتوِّجهُ بالعافية والسعادة، ومزيد التوفيق لتكملة صرح مشروعه. 

 


*(كاتب جزائري)

الهوامش:

(1). مصلح لاهوتي بروتستانتي أنقذ الدين من فخ العقلانيّة، بإعادة صياغة رؤية جديدة للدين، يتعالى فيها الدين عن المناكفات العقليّة والمنطقيّة، ويتجاوز لغتهما، ويتبنى لغة الروح والقلب وهما لغتا الشعور والحدس. 

(2). "الدين والظمأ الأنطولوجي"، و "الدين والكرامة الإنسانية"، و"الدين والنزعة الإنسانيّة"، و"الدين والاغتراب الميتافيزيقي"، و"مقدمة في علم الكلام الجديد". 

(3). عبد الجبار الرفاعي، الدين والكرامة الإنسانيّة. طبعة 2 مزيدة ومنقَّحة. 2022. دار الرافدين، بغداد، ص 103.

 (4) الدين والاغتراب الميتافيزيقي، طبعة 3 مزيدة ومنقَّحة.  2022. دار الرافدين، بغداد، ص 25.

(5). الدين والكرامة الإنسانية،. صفحة 99.

(6). المصدر نفسه. صفحة 99.

(7). المصدر نفسه. صفحة 99. 

(8). عبد الجبار الرفاعي. الدين والظمأ الأنطولوجي. طبعة 4 منقَّحة ومزيدة. يناير، كانون الثاني 2023. دار الرافدين، بغداد، صفحة 106. 

(9). المصدر نفسه. صفحة 31. 

(10). المصدر نفسه. صفحة 106. 

(11). المصدر نفسه. صفحة 107.

(12). عبد الجبار الرفاعي، الدين والكرامة الإنسانية. صفحة 111. 

(13). من الأيديولوجيا إلى تجديد علم الكلام. قراءة نقدية لأنسنة الدين عند د. عبد الجبار الرفاعي. أ. د. عبد الجبار عيسى السعيدي. 

(14). قراءة في كتاب "لغة الإيمان عابرة للمعتقدات والفرق". د. حميدة القحطاني. فلسفة القانون الدولي العام. المثقف: 24. 12. 2023.

(15). التفسير الثالث للدين، خارطة طريق عبد الجبار الرفاعي للجيل الجديد. مشتاق الحلو. التنويري altanweeri.net 07. 07. 2024. 

(16). كريم جدي في حوار مع الدكتور محمد حسين الرفاعي. صحيفة المثقف، بتاريخ: 11. 05. 2024.

(17). مجلة مصوَّرة تُعنى بالآثار والتراث، وصاحبُها ومديرُ تحريرها هو الأستاذ محمَّد سعيد الطريحي، وتصدر عن: أكاديمية الكوفة بهولندا.