د. سمير الخليل
يقترح القاص نهار حسب الله لنفسه عوالم ضاجّة بالوجع في مجموعته (بيدق في لعبة الشطرنج) ليؤسس من خلالها مدونة تنطوي على قصص قصيرة دالة تستشرف مديات الوجع والانكسار والتآكل الذي يحاصر أبطاله، وهم يقضون في الحروب والصراع الاجتماعي بكل أبعاده، وهم يكابدون سلطة المحو والإقصاء والنفي وسلطة إزاحة الآخر، وتهميش القيم الرفيعة والمثل التي يتعالق معها أبطال القصص.
تبدو قصص المجموعة منتميّة إلى الهمّ الإنساني بكلّ تجليّاته، ولذا نجد شخصيّات المجموعة تبدو مأزومة وهي تعاني صراعاً مريراً مع الواقع وتحدّياته وغالباً ما تتحوّل إلى ضحايا وقرابين شراسة القوى المتحكّمة في ذلك الواقع المحتدم، لتؤشّر بموتها أو اختفائها أو انسحابها أو صدمتها نوعاً من تعرية وإدانة الواقع القائم على التناقض وإدانة الحرب والقبح والسلوك الاستغلالي والاقصائي، وعلى وفق هذه الأجواء تتوغّل القصص في أعماق القاع الاجتماعي، وتستحضر شخصيّات تعيش في عمق الحياة، وإن كانت مهمّشة بسبب تعلّقها وارتباطها بقيم ومعانٍ ومثل وترسيمات يوتوبيّة يسعى إليها أبطال حالمون مأزومون يقارعون الحياة وينغمرون في صراع وجودي وإنساني وصراع طبقي وسياسي وصراع من أجل الإفلات من الحروب والموت والإقصاء.
وتتحول تلك الشخصيّات إلى بيادق تحت ربقة الهيمنة الكلية لمختلف قوى وضغوطات الواقع بكل أبعاده سياسياً ووجودياً وسيوسيولوجياً، وعلى هذا المعنى جاءت الإحالة الإشاريّة الرمزيّة للعنوان بوصفه الإضاءة التي تنفتح على المتون وتؤسس للمعنى في تجلّياته الأفقية والعمودية للنص، وكلّ الشخصيّات كانت تعيش قدراً يسيّرها ورقعة شطرنجية تسير عليها فهي محكومة بعالم تنقصه الحريّة والإرادة والحلم إنّه عالم يسوده الصراع والتكالب والاستئثار والأنويّة المقيتة.
تضمّنت المجموعة ثمانية نصوص قصصيّة تنوعت في أجوائها وتجلّياتها لكنّها تمركزت حول إدانة وتعرية الحرب والواقع المأزوم والقبح حتّى تحوّلت من نسق الإدانة والكشف إلى نسق الاحتجاج والتدوين الدال، ولم تعانِ قصص الكاتب من تضخّم المضمون على حساب الشكل الجمالي؛ لذا نجده يميل إلى العناية بالبناء الفنّي والاهتمام بعناصر البنية السرديَّة، ووصف الأمكنة وتجسيد دلالة الزمن السايكولوجي -الذاتي- غالباً، ولا يهتم بشكل تفصيلي بالزمن الفيزيائي ما عدا بعض الإشارات للأعوام 2003 و2006 وغيرها بوصفها إشارات تاريخيّة لمنعطفات دراماتيكية عصفت بالمجتمع العراقي، ويبدي عناية برسم ملامح الشخصيّات والأحداث والاستهلال والختام، وغالباً ما يضيءُ النهايات بجملة أو لحظة (تنوير) ترتبط بالمبنى الكلّي للقصّة، كما يبدي عناية خاصّة بالصياغة الدلاليّة للعناوين التي تنطوي غالباً على المفارقة والتناقض والغرابة كنوعٍ من التحفيز الذهني والتواصل مع المبنى الحكائي.
ونلحظ مفارقة العنوان في قصّة (ابتسامة لوجوه متعبة) التي تتحدّث عن سيرة موظف يعمل في قسم التدقيق بدائرة التقاعد العامّة، وقد أخذ بوصيّة أمّه وهي تنصحه وتطلب منه أن يوزّع الابتسامة والفرح على كلّ من يلتقيه أو يتعامل معه وحمل اسمه ربيع ناصر بعداً رمزياً ودلالياً، "فمنذ زمن بعيد لم ينسَ ربيع حروف أمّه الأخيرة التي نطقت بها وهي تودّعه وتودع الحياة كلّها: "أنا راحلة يا ربيع لا تجعل وجهك عابساً في وجوه الناس، فهم يحتاجون إلى من يبتسم لهم ويخفّف عنهم تذكّر ملامحي جيداً وابتسم في أصعب اللّحظات حتّى أكون معك، ابتسم للألم حتى يهجع واضحك للخوف حتى يرحل، ووظّف طاقتك كلّها كأدوات لصناعة البسمة على وجوه الآخرين وتأكد بأنّي سأكون سعيدة بنضالك لإسعاد المحيطين بك".
وقد اتخذ (ربيع) وصيّة أمّه كتعويذة وجوديّة وحياتيّة وتطبيق معناها كونها صدرت من أمّ حنون، وذات تحمل كثيراً من الصفاء، وتمثّل وصيّة الأم في القصّة من حيث الدلالة المحمول المثالي والقيمي الذي يحمله ويتبناهُ الإنسان في مرحلته الحياتيّة، لكن المجهول سيصطدم قطعاً بمظاهر القسوة والصراع والزيف الذي يعانيه الواقع وانكسار.
وتجسّد قصّة (الوصية قبل الأخيرة) بعداً إنسانياً وواقعيّاً حمل كثيراً من تفاصيل الواقع المؤطّرة بخيط أو مسحة رمزية تحمل كثيراً من القيم الرفيعة والرؤى الإنسانية القائمة على التسامح والتآصر بعيداً عن كلّ أشكال العداء، ونلمح رفضاً للنسق الجهوي والتفكير الطائفي المنحرف وإدانة لهذا الشكل من الاحتراب الأهلي والداخلي، فبعد معاناة البطل يقرّر كتابة وصيّة له يغرس فيها القيم التي يؤمن بها وينشر بها ما أفاده من الحياة من خلال المخاض اليومي والمعاناة، وكانت الوصيّة شغله الشاغل: "فتحها وقرأها بصوتٍ عالٍ: "انتظر الموت ربّما هو أصعب من أي موت، هذا ما أدركته بعد خمسة أيام من القلق، آسف لمن يقرأ رسالتي السمراء هذه لأنه لن يجد ما ينفعه في جيوبي".
ويكمل الرسالة أو الوصيّة في مقطع آخر وهو يحمل دلالة إنسانيّة وقيمة من القيم الرفيعة التي غالباً ما يتغنّى بها أبطال المجموعة وهم مشدودون إلى العالم الحلمي والمثالي الدال: "وإن سأل الناس عن اسمي أبلغهم بأنّ اسمي هو يوسف أخبرهم بأنّي لا أحمل أي وثيقة لأنّي كنت لا أخشى السير في مناطق الاقتتال الطائفي ولكن مع الأسف أجهل كيفية موتي، سوف تجد في جيبي مبلغاً رمزياً، امنحه لأي فقير تختاره أنت". ولعلّ جمالية القصة تعبّر عن صوت يؤكد إنسانية الفرد ووثوقه إلى إشاعة العدل والمحبّة ورفض الفكر الجهوي والطائفي.