نجيب محفوظ.. بداية ونهاية

منصة 2024/08/04
...

 غفران حداد

في الثلاثين من شهر آب الماضي حلّت علينا الذكرى الثامنة عشرة لرحيل ايقونة الرواية العربيّة نجيب محفوظ (11 كانون الأول 1911 - 30 آب 2006)، أديب قرّاءه من مختلف الأعمار، لازلت أتذكر أول رواية قرأتها له حين كنت في مرحلة المراهقة ولفت نظري العنوان "عصر الحب" حيث تدور أحداثها بين الحارات الشعبيَّة المصريّة حين يتنافس "حمدي وعزت" على قلب "بدرية" لكن "حمدي " يفوز بحبها ويتزوجها، نشرت الرواية لأول مرة عام 1980، لتلفت انظار القارئ العربي أكثر حين تحولت إلى فيلم سينمائيّ عام 1986 بطولة محمود ياسين وسهير رمزي وإخراج حسن الإمام.


محفوظ أول أديب عربيّ حاز على جائزة نوبل للأدب، بدأ الكتابة منذ الثلاثينيات واستمر حتى عام 2004 وتدور أحداث رواياته في مصر، ويصنّف أدب محفوظ باعتباره أدباً واقعياً، ويعد أكثر أديب نقلت أعماله إلى السينما والتلفزيون.

ولد في حي الجمّالية بالقاهرة، والده الذي كان موظفًا لم يقرأ كتابًا في حياته بعد القرآن غير حديث عيسى بن هشام، لأن كاتبه المويلحي كان صديقاً له، ووالدته، فاطمة مصطفى قشيشة، ابنة الشيخ مصطفى قشيشة من علماء الأزهر، التحق بجامعة القاهرة سنة 1934 وحصل على ليسانس الفلسفة وكان ينشر قصصه القصيرة في مجلة الرسالة التي أسسها الأديب أحمد حسن الزيات.

وفي عام 1939 نشرت روايته الأولى "عبث الاقدار"، ثم" رادوبيس- 1943"، "كفاح طيبه- 1944" ، "القاهرة الجديد- 1945 "خان الخليلي- 1946" ، " زقاق المدق -1947"، " السراب- 1948"، كانت رواية "بداية ونهاية" أول عمل لمحفوظ يتحول إلى السينما، حيث انبهر في عام 1960 المخرج صلاح ابو سيف بكتابات محفوظ وشعر بأنه صاحب ذهن متفتح وكاتب من طراز مختلف، وقال محفوظ عن ابو سيف بأحد لقاءاته إن "ابو سيف علمني كيف أكتب السيناريو، وهو صاحب الفضل عليه ولولاه ما كتبت ورقة واحدة للسينما".

أكثر من 20 رواية تحولت إلى فيلم، مثل "بين القصرين، اللص والكلاب، الطريق، زقاق المدق، ثرثرة فوق النيل، الكرنك، ميرامار، الحب فوق هضبة الهرم"، لكن تبقى روايته "القاهرة 30" الأشهر بينها وحولت سينمائيا وتعلق بها 

الجمهور. 

الفيلم يحمل خمس شخصيات بين "علي طه- عبد العزيز مكيوي" الذي يعبر عن حبه لوطنه ومحاربته للملكية ويعبر عن عشقه من خلال توزيع المنشورات التي تحث على الحرية والاستقلال، أما "احسان شحاته - سعاد حسني" الفتاه الجميلة البريئة التي تعيش ضحيّة مجتمع فاسد وسط عائلة فقيرة مثقلة بأعباء الحياة، بينما شخصيَّة "محجوب عبد الدايم- حمدي أحمد" الطالب الجامعي الفقير الذي يعبر عن اتجاه انتهازي نفعي لا أخلاقي، أيضا شخصيّة "قاسم بيه- أحمد مظهر" وزير المعارف الثّري الذي يجري وراء شهواته، ويقع في غرام احسان ليس حبا لشخصيتها، وإنما ارضاء لشهواته أخيراً شخصيّة "سالم الاخشيدي -أحمد توفيق" الذي يتنازل عن مبادئه في سبيل الوصول إلى المال والسّلطة، فيلم مليء بالصراعات النفسيّة، ويقدم أبطالها الذين يحملون التمرد على الفقر والأخلاق ويطرحون أفكاراً عن الحرية والاشتراكية.

ختم محفوظ رحلته الأدبية في "أحلام فترة النقاهة" آخر أعماله التي نشرت على حلقات في مجلة "نصف الدنيا" ثم جمعت في كتاب، وفي هذا الاصدار حقق محفوظ تصوره المتكامل عن الأقصوصة ذلك الشّكل الفنيّ الكثيف الذي لم تعرفه من قبل روح القصّة القصيرة المحفوضية، الاقرب إلى الطول "بين ايدينا 239 أقصوصة هي الغلة النهائي للأحلام حسب طبعة دار الشروق الرابعة".

النصوص قصيرة جدا بعضها لا يتجاوز الاسطر الثلاثة وأطولها الصفحة، من يقرأ الأحلام يتلمس لسوداويتها واحتفائها بالأشلاء والدماء والمسوخ، وأحلام السارد نقضاً كاملاً، لأفق النقاهة في أحد أحلامه يكتب

"الظلم تمادى حتى فاحت رائحة خانقة.. فسافرت مع صحبة إلى حيث يُرجم الشيطان، ولما رجعت صدمتني الريحة الخانقة.. وقال الزملاء إن لجنة الشر منعقدة في حجرتها وأن مصيرنا يتقرر، فقمت من فورى إلى الحجرة، فوجدتني وجها لوجه مع رئيسها، وحد جنى بنظرة قاسية، فاستخرجت من جيبي بعض الأحجار ورميته بها، وغادرت الغرفة.. ودوى الانفجار ليصم الآذان".

رحل محفوظ وهو في عمر 95 عاماً، وفي شيخوخته الطاعنة سئل في حوار تلفزيوني إذا كان يخشى الموت؟ فأجاب ببساطة: لا.

رحل صاحب أعظم ضحكة في العالم يمكن أن تسمعها من كاتب. ضحكة مجلجلة رنانة، بلا ظلال ولا خبث، بريئة براءة الأطفال، تحضر خفة الظل في حياته، ونبرة سخرية في نصوصه، حتى في أشد المواقف مأساويّة.

تُنسب إليه طرفة عندما زاره وزير المالية عقب محاولة اغتياله قابله محفوظ مبتسمًا وقال له: "حضرتك أنا مسدد الضرائب" إن خفة الظل هي انتصار على آلام الحياة، وعلى 

الموت، معًا.