أحمد الخالصي
هناك نوع من المفاهيم يحمل في طياته معاني مشتبكةً ومرتبطةً في مصطلحات أُخرى، هذا من جهة، ومن جهة أُخرى يكون بُعدها النظري مختلفا عن تشكله في الواقع، ما يجعله ذا طبيعة شعاراتية أكثر من أي شيء آخر.
الرأي العام يقع ضمن هذه الخانة بعض الشيء، لأن مدياته تتصل بدلالات مفاهيم أُخرى، كالمزاج العام والوعي الجمعي، ومهما قيل في التفريق بين هذه المصطلحات، فإنها تبقى تصب في ذات القوالب، فالمزاج العام وإن كان يرتبط بالحالة النفسية كقوام أساسي له، إلا أنه في النهاية يصب في القوالب الشعورية ذاتها الممهدة لقضية تكوين الرأي العام، وفي ما يتعلق بالوعي الجمعي المرتبط بمعارف متشكلة ضمن مراحل زمنية عدة، والمشتق من عدة مشارب كالعادات والتقاليد والخ….، إلا أن صيرورة المعرفة الاجتماعية كمستهدف، من خلال تفريغها ومحاولة تهجينها تمهيدًا لتغييرها، سلب منها خاصية الثبات النسبي، وجعلها في النهاية ضمن الأُطر العامة، التي تسهم في بلورة الرأي العام، وجعله أكثر استجابة لقضايا معينة لم تكن لتنال ذات الرواج، لو بقي الوعي الجمعي كما هو.
هل الرأي العام عامٌ بالفعل؟
ينبع هذا السؤال من حقيقة التطور الهائل في وسائل الاتصال وتقنياته، هذا التقدم الذي يسير في الاتجاهين العمودي والأفقي، أي بمعنى آخر المركزية واللامركزية، تبرز إشكاليته في النظم السياسية القائمة على التعددية، والمنصهرة ضمن مصالح متضادة، ومن ثم أرضية مهيأة لجماهير منقسمة، من هنا يظهر مكمن الإشكال فيما إذا كان العام عامًا بالفعل، فالواقع متمثل بأحزاب وأدوات إعلامية وجماهير لجانبها، مقابل مثيلات تمتلك ذات الأشياء، هذه المعادلة تفترض صراع رؤى في سبيل التكسب، سواء على المستوى السياسي أو الشعبي، أو ضرب الخصوم، ولا يوجد أفضل من الرأي العام كقناع ووسيلة لتنفيذ ذلك، إذا يوفر التخفي خلفه مقبولية أكثر، في إمكان فرض هذه الرؤى أو تلك، بعكس لو ظهرت بالرداء الحزبي أو الجهوي، الذي حتمًا سيتلقى ردات فعل مضادة من الطرف المقابل. كل ذلك يقودنا إلى أن الرأي العام هو حلبة صراع بين مصالح متضادة، ينتصر فيها من يمتلك الإقناع والأدوات الإعلامية الأقوى، مما يعني أنه رأي جهة معينة وليس رأيًّا عامًّا معبرًّا عن المجتمع ككل، مما يسلب منه صفته العمومية، ويجعل منه وسيلة سياسية ضاغطة بيد الجهة الأكثر إقناعًا وقوة في دعاياتها.
كيف لنا أن نتعامل مع الرأي العام قبل الخوض في الكيفية، التي نراها مناسبة للتعامل مع الرأي العام، لا بد من التنويه على أن ماقلناه ليس حكمًا عامًا، ما يعني وجود الاستثناءات، فضلًا عن كونها نظرة شخصية بكل تأكيد.
في مسألة التعامل مع هذا المفهوم لا بد من الانطلاق من حقيقة وجوده الواقعي، وإن كان مختلفًا عن فحواه النظري، من هذا الباب يكون التعامل على أساس عدم التسليم بعموميته، وكونه منتجا مصطنعا أكثر منه عفويًا، ما يعني ضرورة استمرار البحث عن محركاته، من خلال التدقيق عن عائدية بذرته الأولى زمنيًا، وإن كان هذا الأمر غير مؤدٍ إلى نتيجة في بعض الأحيان، لكنه له قابلية الكشف في حالات عدة، إن هذه الخطوة مهمة في معرفة الخط السياسي، الذي يريد تصدير هذه القضية كرأي عام، من ثم إمكانية التكهن بالدوافع الكامنة خلف الترويج له، كل هذا يوفر لنا الإطار الأمثل للتعامل مع هذه القضية، من خلال إجراء المقارنة الفاعلة بين الإيجابيات والسلبيات التي تمس الدولة والمقصد هنا المعنى النظري لها، لا الفهم السائد الذي يقصرها على الحكومة، مع التأكيد على سقوط هذه المقارنة، إذا ما كان الدافع خلف إثارتها، يكمن في التغطية عن قضية أُخرى أهم، مما يعني إن لا سبيل سوى مواجهته، من خلال ذات الوسائل التي تم استخدامها. في الختام فإن ماقلناه متعلق ضمن الجو العام للعراق، والأمر بكل تأكيد مماثل في البلدان ذات التعددية السياسية، وبالأخص المتصارعة منها في المجالين السياسي والاجتماعي، مع فارق الوعي الفردي والجمعي، الذي يقلص أو يعمق الفجوة، أما في ما يخص النُظم الأُخرى فلها مسارات قد تختلف في ما يتعلق بالرأي العام، من حيث منتجوه أو من خلال كيفية التلقي الجماهيري له، لكن رغم ذلك ومع فارق شكل السلطة والحيز المكاني يتسم هذا المفهوم بشكلٍ عام في كونه نتاجا
مصطنعا.