ريسان الخزعلي
هيروديا، مسرحية شعرية للشاعر يوسف الخال كتبها عام 1953، وقد صدرت طبعتها الأولى في نيويورك عام 1954عن دار الهدى، كما ضمتها أعماله الشعرية الكاملة - دار العودة 1979.
المسرحية في معظم عيّناتها الشعرية منظومة باعتماد شكل الشعر العربي العمودي الذي قال عنه في مقدمة المسرحية إنه أسلوب شعري عتيق. وبالقدر الذي لا يصحُّ الاتفاق كليّاً مع هذا التوصيف، نورد ما جاء في هذه المقدمة من باب الاستعادة التاريخية/ الفنية أولا، ولنعرف كيف كان يفكر الشاعر فكرياً وأسلوبياً في تحولاته الشعرية ثانياً.
(1)
يقول يوسف الخال: قد تكون هيروديا آخر ما سأنتجه من أدب في هذا الأسلوب الشعري العتيق. فمن العبث الاستمرار في استعمال أساليب شعرية لا تصح بعد الآن للتعبير الكامل المطلق عن خوالج النفس، ولا أعني القوافي والأوزان فحسب، بل اللغة ذاتها أيضاً. فأزمة الحياة العربية إجمالاً هي أزمة لغة كما هي أزمة عقل، ومهما طال الوقوف في وجه الحياة، فلا بدَّ عاجلاً أو آجلاً من الانصياع إلى نواميسها، وإلى أن يتمَّ ذلك يظل الأدب العربي المعاصر أدباً قديماً، مصطنعاً، محدوداً لا يتجاوب مع نَفَس القارئ ولا يُعبّر تعبيراً صادقاً عن حياته.
إنَّ أفكار يوسف الخال هذه، وما كان على شاكلتها، قد جوبهت في حينه بالكثير من الردود التي عارضت جوهر خطابه. ورغم هذا الخطاب إلّا أنَّ الخال استمرَّ يكتب باللغة ذاتها مع أنَّ الأزمة هي أزمة هذه اللغة! وهنا لا يستتر تراجعه الضمني عن الانكشاف.
( 2 )
مسرحية "هيروديا" ترتكز بالأساس على نص استعاره الشاعر من إنجيل متّي - الفصل الرابع عشر. وقد وجد فيه تواشجا فكرياً، يعتقده ويتمثّله فعلاً.
يقول النص: فإنّ هيرودس كان قد أمسك يوحنّا وأوثقه وطرحه في سجن من أجل هيروديا امرأة فيليبس أخيه، لأن يوحنّا كان يقول له لا يحل أن تكون لك.
ولمّا أراد أن يقتله خاف من الشعب، لأنّه كان عندهم مثل نبي، ثم لمّا صار مولد هيرودس رقصت ابنة هيروديا في الوسط فسرّت هيرودس، من ثَم وعد بقسم أنّه مهما طلبت يعطيها، فهي إذ كانت قد تلقّنت من أمها قالت إعطني ها هنا على طبقٍ رأس يوحنّا المعمدان. فاغتنم الملك ولكن من أجل الأقسام والمتكئين معه أمر أن يعطي فأرسل وقطع رأس يوحنّا في السجن، فأحضر رأسه على طبق ودفع للصبيّة فجاءتْ به إلى أمها، فتقدّم تلاميذه ورفعوا الجسد ودفنوه، ثم أتوا وأخبروا يسوع.
من هذا النص تشكّلت شخوص مسرحية هيروديا أيضا: هيرودس - ملك الجليل، هيروديا - زوجة هيرودس، سالومة - ابنة هيروديا، تامار - وصيفة هيروديا، قادة وأعيان من الرومان والجليل.
إنَّ موضوعة القتل التي عالجتها المسرحية مستعارة هي الأخرى من النص الذي أشرنا إليه، وبذلك تمكّن الخال من إعادة تشكيل وبناء النص شعريّاً - وبشعر عتيق على حد قوله - ليس إلا.
( 3 )
مسرحية "هيروديا" لم تخرج عن "المكان الأوّل"..، إذ تدور أحداث الفصل الأوّل في مقصورة هيروديا، وأحداث الفصل الثاني في باحة قصر هيرودس، أما أحداث الفصل الثالث والتي منحها بُعدا "وقتيّا" فتدور في مقصورة هيرودس وهيروديا في "الهزيع الأخير من الليل". ورغم التأكيد "الشهواني" الذي استهلَّ الشاعر به مسرحيته، وتمجيد اللذّة الكامنة في أسرار الجسم ونشوة الخمرة، إلّا أنَّ موضوعة القتل هي الحبكة الدرامية التي تأسست عليها المسرحية، فضلا عن التأكيد بأن مولد الخطيئة "أنثى".
اللذّة:
ضمّخيني، تامار، في جسدي عرس/ وفي أضلعي هزيج مراح
وهنا في جدائلي سَمَر الليل/ وهامَ الصباح خلف وشاحي
وافرشي فوق مضجعي خُصل الورود/ وصبّي الخمور في أقداحي
ليلة هذهِ تفوق ليالي / ارتماءً على الشهي المتاح
من عناقي، ومن ترنُّح أظافري/ ومن دفءِ نشوتي، والتياحي
فانهياري سكرى على قَدم الشهوة/ في ذلّة وخفض جناح.
****
مولد الخطيئة أنثى: ها هنا مولد الخطيئة أنثى!.. دونك الشمس مزّقيها وسودي. وارقصي في الظلام، في الدَّم، في الموت..
****
القتل: - هيرودس
على راحتيَّ إليك قلادا.. أو سليني لبنان أنسِج رُباه
فوق عطفيك مئزراً وبجادا
ما تشائين اطلبي!
- سالومة.. رأس يوحنان.
( 4 )
مسرحية "هيروديا"، إذن كُتبت عن التاريخ من التاريخ، وبالمعنى المتحقق ذاته، وقد أضفى الشاعر عليها تصعيداً شعريّاً قادماً من الرنين الإيقاعي الذي يولّده الوزن والقافية "الشعر العتيق"، أمّا التصعيد الدرامي، فقد حمل الواقعة التاريخيّة فقط، وبذلك أصبح محدودا ًبواقعته. وإن كل الذي أراده الشاعر في هذه المسرحية كخُلاصة، ما هو إلّا تأكيد "فكرة المعروف" وصولا واستنتاجا للقول الشائع: الكل باطل وقبض ريح. أمّا في الموقف الفني/ الجمالي، فإن المسرحية توافرت على قدرة عالية من الاختزال واستحضار الحدث بمشهدية تصويرية. وبذلك واجهنا الحدث ممسرحاً بذاته:
انهضي، انهضي، أنا العاثر الجاني.. تعلّقت في الحياة بوهم:
بكِ، بالمجد، بالغنى، فكلانا.. قبض ريح، إذن، وأضغاث حلم.