رعد أطياف
تنتشر الأوهام بين عموم الناس، بوصفها ترياقاً مضاداً للحقيقة! ذلك أن الحقيقة كشف وإماطة اللثام، ولسنّا مستعدين، بعمومنا، للصبر والتأني، والمطاولة، والإصغاء لصوت الوجود وهو يميط اللثام عن نفسه. والأمر ليس جديداً، وإنما قديم قدم الأوهام التي رافقت رحلة الكائن البشري وهو يتلمس دروبه الوعرة. تاريخ الإنسان هو تاريخ أوهامه؛ عاداته المألوفة، تكراراته التي ما فتئت تعيد نفسها بأشكال تعبيرية مختلفة.
ما نطلق عليه مفهوم”الحب” أحد تلك التكرارات التي أدمنها الإنسان كتعبير صارخ عن عطشه المستديم تجاه التكرار.
قابلت الكثير ممن دخلوا تجربة”الحب”، وانتهت هذه التجارب بخيبات أمل كبيرة: طلاق، أو خيانة، لاسباب مختلفة، لم تكن حباً على الإطلاق، بقدر ما كانت مشاعر إعجاب تم توظيفها على أنها «حب». وقد تعثر على كل شيء في هذه العلاقة إلا الحب.
الملفت في الموضوع، أن الرجال الذين قابلتهم ما زالوا يكابدون حالات نفسية مؤلمة، ويندبون حظهم العاثر نتيجة لمحصل. ولاحظت البعض الآخر ينتابهم الشعور بالندم نتيجة للثقة التي منحوها لمن يحبون. كما لو أنهم مستاؤون لأن الشرط المقابل لم يتحقق، وهو الشعور بالامتنان لثقتهم المجانية!
المهم في الأمر، أفهم الحب على النحو التالي: أن نتمنّى السعادة وأسباب السعادة لمن نحب، وألا نتمنّى له المعاناة والألم، وهو بالنتيجة عطاء متبادل. مثلما نجد عند كثير من الشعراء: الحب، والحيرة، والشك، والغربة، والقلق.. مفاهيم مثل هذه لا تمثل سوى أحكام مسبقة، وديكور حسب الطلب عند الشاعر المتصنّع، وليست لديه مشكلة أن يتقمص تجربة غيره طالما تضمن له الفوز المستمر بالتكرارات التي ذكرناها. والشخص “المحب” يمكنه أن يتعذب بهذه الوساوس الذهنية المؤلمة بوصفها “حبا” على طريقة الشعراء الذين يفتقرون للتجربة
الداخلية.
التجارب الإنسانية الصادقة المبنية على الأخذ والعطاء المتبادل من انتظار مقابل أو مكافأة، هي من تمنح الحب تعريفه الصادق وديمومته. لا يوجد أحد منّا من لم يصادف زوجين لم تكن بينهما علاقة “حب”، وإنما كانت تجري هذه العلاقة طبقاً للأعراف التقليدية. لكنهما، مع ذلك، استطاعا تجاوز أوهام الحب الزائف، ومن خلال المعاشرة الطويلة فهما بعضهما. ليس هذا فحسب، بل تلمسوا نعمة الحب بصيغ عملية خالية من كل صورة مسبقة أو محاكاة. مؤكدا أن ما يسمى “الزواج التقليدي” ليس حلاً نهائياً، وأن ما نستشهد به هنا ليس لكونه صيغة مثالية متكاملة، وهو لا يخلو من مشكلات بالتأكيد (فالحياة جوهرها معاناة وبلاء)، وإنما توضيح لمن يريد البرهنة، وحصر الزيجات الناجحة في علاقات “الحب”، التي تحدث على طريقة الأفلام والمسلسلات الرومانسية. لكي لا أسيء لكل من أحب بإخلاص وصدق، لا أقصد التهكم على الحب كما هو، بوصفه عطاءً متبادلا بين الطرفين خاليا من المنّة، أو تمنى السعادة للاخر، بل أتهكم على أوهامنا وتصوراتنا الضبابية، التي تزيّف لي الواقع؛ تزيف لي علاقة مأسورة بمشاعر سامة (وقاتلة بعض الأحيان)، هذه المشاعر سرعان ما تطفو فوق السطح في السنة الأولى للزواج (الحبّي)، ثم يتضح لاحقاً الحقيقة التالية: كل شيء متوفر في هذه العلاقة إلا الحب.
أكتب هذه الكلمات تضامنا مع الشبان والشابات، الذين يتصدرون قوائم الطلاق بنسب كبيرة جدا. فقد صدمت من الأرقام الكبيرة للنسبة الكبيرة لقضايا الطلاق بين فئة الشباب، وهو أمر يؤسف له بكل تأكيد. فهل يقتنع الطرفان بالتعريف الذي ذكرناه، أم تبقى مشاعر الألم، والانتقام، هي التعريف الجوهري لكليهما! ويبقى “الحب” عبارة عن «فلم رومانسي» فاشل، تتحكم به الاهواء النفسية، لكننا، رغم ذلك، مصرون على لعب هذا الدور مهما كان الثمن؟.