أخلاق الثقافة وثقافة الأخلاق

آراء 2024/08/06
...

 ثامر عباس


حين ينزلق المجتمع صوب حضيض الرياء والنفاق والفساد، ينتفي حينذاك الرهان على (المعايير) الأخلاقية، ويختفي الاحتكام إلى المقاييس الحضارية، وتندرس جميع القيم الإنسانية، كما لو أن المجتمع المعني لم يرى أنوار الحضارة يوما ولم يلامس مثلها وقيمها وأعرافها، بحيث استمر يراوح بين أطوار التبربر والتوحش والتبدون !. وعلى ما يبدو فإن المجتمع العراقي سيبقى المصدر الأساسي الذي يمكن اعتماده كنموذج حيّ وكتجربة ملموسة لمختلف ضروب الانحرافات، التي تنجر إليها وتنخرط فيها المجتمعات، التي فقدت معادلات التوزان بين أخلاق الثقافة وثقافة الأخلاق. 

ولعل البعض يتساءل عن الفرق ما بين قولنا بـ(أخلاق الثقافة) و(ثقافة الأخلاق)، لجهة ما تضمره تلك التعابير من دلالات معرفية وسوسيولوجية أصيلة قارة أو دخيلة مكتسبة، لا سيما أن عملية التقديم والتأخير ما بين اللفظين المختلفين قمينة بتوليد الكثير من الانطباعات الذهنية المتضاربة، التي قد لا تحمل السامع على التعاطي معها بجدية كافية أو باهتمام ملحوظ، من حيث كونها تسوقه للاعتقاد أن مثل هذه التعابير والألفاظ لا تعدو أن تكون مجرد تلاعب بالألفاظ ليس إلّا. وللإجابة على مثل هكذا تساؤل يمكننا القول؛ إن لكل مجتمع من المجتمعات البشرية ثقافة ما تعبر عن طبيعة معتقدات وعادات وعلاقات الأغلبية الساحقة من جماعاته ومكوناته، والتي عادة ما تتموضع في بنية وعيها ونمط سلوكها على شكل ضوابط ومعايير يصعب إهمالها أو تجاهلها دون عواقب اجتماعية أو نفسية أو دينية، بل وحتى سياسية في بعض الأحيان. 

ولما كانت الثقافة بالأساس ظاهرة اجتماعية وإنسانية، فهي مشروطة بالبنى الجامعة والأنساق الشاملة المسؤولة عن كينونة القيم المعيارية (الأخلاقية والرمزية) السائدة، والتي يمكن اعتبارها بمثابة البوصلة الموجهة والمرشدة إلى حيث ينبغي للمجتمع أن يحتكم إليها ويرتكز عليها، حين تضطره الظروف الاستثنائية للمفاضلة بين الخيارات العديدة والتوجهات المتنوعة. من هنا لا يمكن تصور وجود (ثقافة) معينة من غير وجود معايير (أخلاقية) محددة، لا تعكس فقط طبيعة الثقافة المحلية (الوطنية) الحاكمة لتصورات والضابطة لتمثلات مختلف مكونات المجتمع المعني فحسب، وإنما تؤطر أنماط التواضعات العرفية والعلاقات الاجتماعية والسلوكيات الحضارية، التي يتوجب على تلك المكونات الالتزام بها والانخراط فيها كذلك. هذا مع الإشارة إلى أن هذه الكيفية السوسيولوجية والانثروبولوجية، لا تقتصر فقط على المجتمعات المتطورة حضاريا دون المجتمعات المتخلفة في هذا المضمار، كما قد يعتقد البعض، وإنما هي ظاهرة عامة تسري على الجميع وتطول الكل دون استثناء، بصرف النظر طبعا عن تنوع المضامين القيمية والاعتبارية والرمزية، التي تحملها هذه الثقافة أو تلك للتعبير عن تفردها وتميزها. 

وإذا ما تناولنا - في هذا السياق - دلالات العبارة الأخرى (ثقافة الأخلاق) للوقوف على الخصائص التي تميّزها عن نظيرها العبارة الأولى (أخلاق الثقافة)، فإننا بذلك ننتقل من المستوى الجمعي/ المعياري إلى المستوى الفردي/ الإجرائي. أي بمعنى أن مجالات البحث والتحليل ستنقلنا من صيغ التعاطي مع القيم والأعراف الخاصة بالمجتمع الكلي، إلى صيغ التعاطي مع أشكال ومستويات تمثل واجتياف (الأفراد) مضامين تلك القيم والأعراف، كل بحسب تربيته الأسرية وتحصيله العلمي ووعيه الحضاري. وهو الأمر الذي يفسّر لنا واقعة التعدد والتنوع في حالات التباين والتغاير، التي يعكس من خلالها أعضاء المجتمع مستوى تقبلهم لقيم وأعراف الثقافة من جهة، ومدى التزامهم بالمعايير والضوابط التي تدعو لها وتحضّ عليها من جهة أخرى. 

ولعله من الجدير بالملاحظة؛ أن الأضرار التي يتوقع لها أن تتمخض عن الفساد في (أخلاق الثقافة) أقل وطأة على مصير المجتمع من تلك الأضرار الناجمة عن الانحراف في (ثقافة الأخلاق)، كيف؟!. ذلك لأن هذه الأخيرة تتعلق بطبيعة المواقف والسلوكيات، التي يجسّدها الأفراد واقعيا وفعليا، إزاء ما تحاول الأولى ترويجه وإشاعته من قيم اجتماعية ومعايير أخلاقية وضوابط 

عرفية. 

إذ ليس كل ما تصوغه وتجسدّه (أخلاق الثقافة) على صعيد الوعي الجمعي يجري تمثله من قبل الأفراد والجماعات بكيفية متساوية ومتشابهة، بما يضمن انسجامها التام وتوافقها الكلي مع مضامين تلك القيم والمعايير والضوابط. وإنما هي تتقاطع على نحو دائم مع العديد من التصورات والتأويلات والتمثلات والتعديلات، بالقدر الذي تتقاطع فيها وتتعارض معها مصالح الأفراد والجماعات والمكونات التي يتشكل منها نسيج المجتمع. وهو الأمر الذي يؤول بالنهاية ليس فقط إلى تصدع مدماك الوعي الثقافي وانهيار معماره الأخلاقي فحسب، وإنما سيفضي – عاجلا أم آجلا - إلى تفكك البنى التحتية المسؤولة عن ديناميات وسيرورات التطور الاجتماعي والحضاري برمته.