ليلة العرّاف.. أشباح ما بعد الحداثة
ترجمة: نجاح الجبيلي
يجد الناقد الأدبي في صحيفة "الغارديان" بليك موريسون أن الصدفة ما زالت تحكم العالم القصصي لبول أوستر في حكايته التشويقيَّة "ليلة العرَّاف". يتحدث ميلتون في كتاب "كوموس" عن "القوة التي يسميها الخطاة الصدفة"، وهي قوة تحراها أوستر بسحر لا يخطئ، منذ أن بدأ النشر في السبعينيات.
إنّها حاضرة في عنوان روايته "موسيقى الصدفة"، وهي حكاية كابوسيَّة - تجمع ما بين نثر كافكا وبيكيت- تدور حول رجل يدفع الثمن النهائي لرهان بوكر خاسر.
إنّها تفسّر "القصص الحقيقيَّة" التي جمعها في كتابه "المجموعة النثريَّة"، وجسّدت بأسلوب جامد ومفاجئ بعض المصادفات الغريبة، ومعظمها حميدة حدثت في حياته الخاصة. وهذا هو الأساس لروايته "ليلة العرّاف"، حيث يصبح الواقع غير محتمل جداً، ومليئاً بالمصادفات الغريبة، إذ يبدو سحرياً - على الرغم من أن السحر أسود أكثر منه
أبيض.
في العشرينات من عمره، قبل أن يستقرَّ في نيويورك، أمضى أوستر أربع سنوات في فرنسا، وهناك دليل في كتابه "المجموعة النثريَّة" على حماسه للشعر الفرنسي الحديث وخاصة "مالارميه، وأبولينير، وإيلوار". لكن هوسه الشديد يعود إلى سوفوكليس: هل كان اللقاء عند مفترق الطرق الثلاث والذي دفع أوديب إلى قتل والده صدفة أم قدراً؟
يعرف أوستر كيف يمكن أن تبدو الحياة والموت اعتباطيين. وكما يقول في روايته: "إنَّ العالم تحكمه الصدفة. فالعشوائية تطاردنا في كل يوم من حياتنا، ويمكن أن تُنتزع منا تلك الأرواح في أي لحظة - من دون أي سبب على الإطلاق". لكن الهندسة القاسية واغتراب الحياة الحضريَّة لا يمنعان الشعور بالتنظيم المسبق؛ ولا العلم والمنطق فَهِمَا الغموض. لكن بعض الأحداث غير عادية ومصيرية للغاية إذ تبدو كلمة "معجزة" مناسبة لوصفها.
يستشهد أوستر من حياته الخاصة بمثال السيد شوغر"سكّر" -اسمه الحقيقي ليس اختراعاً مجازياً- وهو صديق مصور ظهر من العدم عندما كان أوستر في حالة من اليأس وعلى وشك المجاعة في ريف فرنسا. في الواقع، أنقذ شوغر حياته: "لقد كانت معجزة.. حتى تلك اللحظة، كنت أعتقد أن هذه الأشياء تحدث فقط في الكتب".
جرى سرد تلك القصة في "المفكرة الحمراء" وأعيد طبعها، مع بقية قصص أوستر الواقعيَّة، في "المجموعة النثريَّة".
نقطة البداية لـ "ليلة العرّاف" هي دفتر ملاحظات أزرق اللون، عثر عليه الراوي في متجر قرطاسية في بروكلين في عام 1982. واشترى الدفتر المصنوع في البرتغال، والمخيط والمغلف بالقماش، الكاتب سيدني أور، الذي خرج للتو من المستشفى بعد فترة قريبة من تعافيه من مرض قاتل وكان يأمل أن يجعله دفتر الملاحظات الجديد يعود إلى الكتابة مرة
أخرى.
حين ذكر صديقه الكاتب جون تراوس، حدثاً في رواية "صقر مالطة" للروائي داشيل هاميت، حول رجل يُدعى فلتكرافت ينكر حياته الخاصة بعد تعرضه لحادث طارئ كاد أن يودي بحياته، جلس أور ومعه دفتر ملاحظاته لتجسيد القصة. في نسخته، أصبح فلتكرافت محرراً في نيويورك يُدعى نيك بوين، الذي كان يسير في الشارع ذات يوم عندما اصطدم مرزاب من الحجر الجيري بالأرض، وسقط بمقدار بوصتين عن رأسه على الأرض. بعد أن تهز بوين هذه المواجهة مع الموت، يسافر إلى مدينة كانساس سيتي، تاركاً وراءه وظيفة جيدة وشريكة محبوبة، ليبدأ حياة
جديدة.
من خلال اختراع مَهرب لبوين، يهرب أور أيضاً من الاكتئاب وحصار الكاتب والواقع اليومي. في الواقع، لقد استغرق في الكتابة بشكل مذهل، إذ تتدفق الكلمات بسهولة على الصفحة، لدرجة أن زوجته، جريس، أقسمت أنها لا تستطيع رؤيته عندما كان من المفترض أن يكتب. ويصاب بالخوف حين يرى دفتراً أزرق مثل دفتره تماماً في شقة صديقه تراوس. يؤكد الأخير أنه اشترى عدداً من هذه الدفاتر في لشبونة ولم يستخدم أي شيء آخر، لكنه يحذر "أور" أيضاً من أن الدفاتر "قاسية
ومغرية".
يعود "أور" إلى قصته بحزم. بعد نفاد ماله، يضطر الهارب بوين إلى مغادرة فندق حياة ريجنسي في مدينة كانساس سيتي والحصول على وظيفة في مكتب "الحفاظ على التاريخ"، وهي منظمة سريالية سريَّة تحتوي على أرشيف من دفاتر الهاتف التي تم جمعها من جميع أنحاء العالم. يجري الوصول إلى مباني المكتب عبر فتحة غير مرئية أو باب مسحور، وهي تشمل شقة من غرفة واحدة، مثل ملجأ الطوارئ، حيث ينام بوين، وحيث بعد حادث مؤسف مع المفتاح، يجد نفسه محاصراً ويواجه الموت ما لم يتمكن من الهروب.. لكن في هذه المرحلة يخذله إلهام أور، ويجد نفسه محجوباً مرة أخرى.
تبدأ الأمور بالسير على نحو خاطئ. تروي جريس، شريكة أور، حلماً يتضمن باباً سحرياً وغرفة تحت الأرض تصطف على جانبيها الكتب. يظهر السيد "تشانغ"، الرجل الذي باع دفتر "أور" الأزرق، في مكان غير متوقع ويغريه في مغامرة مساومة جنسيَّة. يزداد الأمر سوءاً: في غضون ساعات قليلة، يضيّع مخطوطة ثمينة في مترو الأنفاق، ويجري السطو على شقته، ويكتشف أن جريس (التي كانت تتصرف بشكل غريب) قد
اختفت.
يلجأ إلى دفتر الملاحظات الأزرق ليس لكتابة الرواية، ولكن لاستعادة السيطرة على حياته من خلال تخيل الأسوأ - وأسوأ ما يستحضره هو أن جريس وصديقه تروس لا بدَّ أن يكونا عاشقين. في حالة يأس، قام بتمزيق دفتر الملاحظات، محملاً إيَّاه مسؤولية الكارثة التي حلت بحياته، ويأمل، من خلال تمزيقه، في إنهاء الاضطراب الحاصل. يشعر القارئ المتشكك، بكثافة الصفحات المتبقية، وأنّ هناك المزيد في المستقبل.
تتمتع "ليلة العرّاف" بجودة القصص الخيالية. إنها قصة كائن يهرب من وكيله البشري ويُحدِث الفوضى. إنها قصة رمزية عن خطر الكلمات وقدرتها على التنبؤ بالمستقبل وتحديد الواقع، يقول أور "نحن أحياناً نعرف الأشياء قبل حدوثها". وقبل كل شيء، إنّها عن رواية القصص التي تستمر في التدفق. فضلا عن القصة التي قدمها أوستر لأور، هناك القصة التي كتبها أور عن بوين، والقصة التي قرأها بوين بصفته محرراً "رواية مفقودة منذ فترة طويلة من عام 1927 عنوانها "ليلة العرّاف"، ناهيك عن القصص التي يلقيها تراوس، بما في ذلك قصة عن صهره وفانوس سحري من
الخمسينيات.
هناك ثمن يجب دفعه مقابل هذه المرجعية الذاتية والنص التلقائي. حتى بمعايير أوستر، تُعد "ليلة العرّاف" كتاباً كلوستروفوبياً "الخوف من الأماكن المغلقة" وسوداوياً.
لقد كان يحب دائماً الألعاب في الرواية "بما في ذلك استخدام شخصية تدعى بول أوستر"، لكن روايات "ثلاثية نيويورك" و"موسيقى الصدفة" و"السيد فيرتيجو" هي في أفضل الأحوال موسعة وشيطانية، في حين أن رواية "ليلة العرّاف" مشغولة ولكنها ضيقة، كأنّها جرذ داخل عجلة، أو مثل كاتب يدور حول رأسه إلى
ما لا نهاية.
ومع ذلك يستمر القارئ في المضي قدماً، متلهفاً لمعرفة ما سيحدث. ربما يكون أوستر قد بدأ حياته كشاعر، لكن ليست الكتابة هنا هي التي تثير الإعجاب "في بعض الأماكن تكون فضفاضة ومورقة على نحو غير معهود" ولكنه فنه القديم في خلق التشويق، الذي ينافس إم آر جيمس أو كونان دويل.
في الواقع، من الأفضل قراءة "ليلة العرّاف" باعتبارها قصة شبح ما بعد الحداثة. والكتّاب الذين يردون فيها ويعملون مثل القنوات
هم الأشباح.