المرأة العراقيَّة.. منارة الصبر وواجهة للخطاب الإعلامي الحسيني
بدور العامري
تصوير: كرم الاعسم- احمد جباره
لقد كان الدور الخاص الذي قامت به النساء المسلمات خلال ثورة عاشوراء وما بعدها وفي مقدمتهن العقيلة زينب (ع) والبقية الباقية من أهل البيت (عليهم السلام)، السبب الرئيس في استمرار وإنجاح النهضة الحسينية، من خلال تغطيتها وتوضيح معالمها وأهدافها من الناحية الإعلامية، وإبلاغ هذه الرسالة إلى الناس لتبقى شعلة وهاجة على مر الزمان.
الخطاب الإعلامي
وبحسب مؤلف للسيد الشهيد محمد باقر الحكيم بعنوان (دور المرأة في النهضة الحسينية) فإن "الإعلام من أجل نجاحه يحتاج إلى المنهج والأسلوب المناسب الذي يجب أن يلتزمه، كأن يكون الإعلام متناسباً مع المخاطبين في مراعاة ظروفهم وعقولهم وأوضاعهم النفسية، والقضايا المهمة التي تتفاعل معها الأمة، وهذا ما يعبر عنه علماء اللغة بـ(البلاغة)"، لذلك نجد أن العقيلة زينب (ع) عندما أرادت أن تقوم بهذه المهمة الإعلامية، وهي تمثل الدور الرئيس للمرأة خلال مسيرة النهضة الحسينية، إضافة إلى نساء أخريات قمن بأدوار معينة مثل السيدة طوعة وزوجات الإمام الحسين وغيرهن، كانت تنتقي المضمون في هذا الخطاب الإعلامي في أربع مراحل هي: أولًا مرحلة الإعلام في الأوقات والأيام التي كانت قبل الدخول في المعركة أو بعدها بقليل، أي في اليوم الذي استشهد فيه الحسين (ع)، عندما نادت بصوت عالٍ لإثارة المشاعر "وامحمداه وأبتاه واعلياه واجعفراه وا حمزتاه، هذا حسين بالعراء صريع بكربلاء"، ثم نادت "ليت السماء أطبقت على الأرض، وليت الجبال تدكدكت على السهل".
لقد أثبتت السيدة زينب (عليها السلام) للعالم أجمع أن بإمكان المرأة اقتحام أصعب الميادين الاجتماعية وتأدية أعظم تكليف اجتماعي فيها، ومع ذلك تستطيع أن تحفظ ركيزة الحياء، فرغم أنها كانت تلقي الخطب على مسامع الجمهور، يصفها الراوي "لم أر والله خفرة قط أنطق منها " أي أشد حياء.
تنوع الأسلوب
وتذكر الروايات أن المرحلة الثانية لخطاب الحوراء كانت في الكوفة، حيث اتسم فيها الوضع السياسي والنفسي العام في بداية الأمر بالولاء لآل البيت (ع) والتعاطف معهم، إضافة إلى ذلك فإن أهل الكوفة قدموا المواثيق والعهود لنصرة الإمام الحسين، لكنهم تخاذلوا عنه في اللحظات الأخيرة، لأسباب عديدة، منها كثرة الاعتقالات وحالة الضغط والتهديد الذي كان يمارسه الحكام، إضافة إلى الاغراءات الكثيرة التي اشتروا بها ضمائر بعض الناس، لذلك نجد السيدة زينب عندما خطبت في أهل الكوفة، كان حديثها يرتكز على التأنيب لنكثهم العهود ونقضهم المواثيق، ما جعل الكثير منهم يتأثرون بخطابها ويبكون بشدة ويندمون على ما قاموا به، وبدؤوا يتحركون فوراً للتعبير عن ذلك، بينما يبين المتتبعون لقضية الإمام الحسين ومجرياتها، تغير الخطاب الإعلامي للسيدة زينب في الشام، بعد جلبهن سبابا مع الأطفال والنساء والإمام العليل زين العابدين، باعتباره أصبح موجهاً للأعداء الحقيقيين، وكان الأمر مختلفاً عما كان في الكوفة حيث البكاء والنحيب، فقد كان عبارة عن كشف الحقائق وإبراز شجاعة أهل البيت وصمودهم وثباتهم واستمرارهم في طريق الحق، وتذكر بعض الروايات أن مرحلة ما بعد الأسر للسيدة زينب(ع) ومن معها، وكان نقلها إبعاداً ونفياً لها من مركزها في المدينة، نجد خطابها قد أصبح موجهاً لعموم المسلمين ولا يختص بالموالين والأنصار أو الأعداء، فقد كانت تخطب في الظرف المناسب، حتى يكون الخطاب مؤثراً وذا فائدة.
أم البنين (الصبر)
يزخر الإسلام بجملة من الشخصيات النسائية الفذة التي يفتخر بها المسلمون بوصفها القدوة الصالحة والمثل الأعلى للنساء، أمثال السيدة خديجة بنت خويلد أم المؤمنين وزوج النبي العظيم (ص)، والسيدة فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين وابنة رسول الله وزوج سيد الأوصياء أمير المؤمنين وأم الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة، وزينب بنت أمير المؤمنين عقيلة الهاشميين وشريكة سيد الشهداء في ثورته الغراء، ومن تلك النساء أيضاً أم البنين فاطمة بنت حزام الكلابية زوجة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام وأم أولاده الأربعة العباس وعبد الله وجعفر وعثمان سلام الله عليهم الذين استشهدوا مع أخيهم سيد الشهداء في كربلاء، فقد ضربت أروع المواقف لنصرة الحق وبذل النفس والنفيس من أجل إعلاء كلمة الله تعالى، هذه المرأة المثالية التي تربت وترعرعت في أسرة كريمة اتصفت بالإيمان والولاء والشجاعة والفروسية والأصالة والكرم، فهي تنحدر من بيت عريق في العروبة والأصالة، حيث قال عنها عقيل بن أبي طالب: ليس في العرب أشجع من آبائها ولا أفرس، عندما اختارها لتكون زوجة لأخيه علي بن أبي طالب.
غرس القيم
لقد ربت أم البنين أولادها على أعظم القيم والأخلاق وصفات البطولة والفداء والقيم الإسلامية العليا، فقد تعالت على كل الاعتبارات الذاتية والشخصية وتجردت من كل النزعات النفسية التي تبتلى بها النساء عادة، لكي ترتقي بذاتها إلى الفناء في حب الله وحب محمد وآل محمد، فلم تكن تنظر إلى أمير المؤمنين كزوج قط، وإنما تراه إمامها الذي يأخذ بيدها إلى الله تعالى، ولم تنظر إلى الحسن والحسين وزينب بأنهم أولاد ضرتها، وإنما تراهم أسيادها وأسياد كل العالمين، فالزهراء سيدتها وهي تتشرف بأن تنوب عنها في خدمة أولادها، لذا تنقل لنا الأخبار بأنها من أول ليلة في بيت أمير المؤمنين طلبت من زوجها عليه السلام ألا يناديها باسم (فاطمة) خوفاً من أن يسبب ذلك ألماً في قلوب أولاد الزهراء، وقد عاشت هذه المرأة طوال حياتها تعامل أبناء زوجها معاملة الخادمة الموالية لأهل البيت، وليس هذا فحسب إنما راحت تغرس في نفوس أولادها الولاء لإخوتهم الحسن والحسين (عليهما السلام)، وقد بينت لهم بأنهما وإن كانا أخويهم من ناحية الانتماء إلى الأب الواحد إلا أنهما سيداهما من الناحية العقائدية، وواجب عليهم الطاعة المطلقة لهما والتضحية الكاملة دونهما.
الجودُ بالأعزة
ونحن، إذ نستذكر هذه المرأة المثالية التي يتطلب من نسائنا جميعاً الاقتداء بها في علاقتها مع زوجها، وعلاقتها مع أولاد زوجها وعطفها ورحمتها، وولائها وإيمانها وفدائها وتضحيتها بأعز ما تملك وهم أولادها لأجل دينها وقيمها، وكذلك نتعلم منها الصبر والاحتساب في الرزية والمصاب.
وبالفعل كان الأمر كما ربتهم عليه، فتراهم يخوضون معركة العز والكرامة لا باعتقاد أو بدافع الدفاع عن أخيهم النسبي من جهة التعصب العشائري، وإنما ينطلقون من مبدأ عقائدي واضح وهو أن الحسين عليه السلام يمثل الإسلام كله عقيدة وشريعة، قرآناً وسنة، وهذا ما أفصحوا عنه بصريح العبارات أثناء قتالهم وحملاتهم الشجاعة، فلما برز عبد الله بن علي (ع) أخذ يقول: ذاك علي الخير ذو الفعال.. أنا ابن ذي النجدة والأفضال
في كل يوم ظاهر الاهوال
سيف رسول الله ذو النكال
ثم برز بعده أخوه جعفر بن علي (ع)وهو يقول: ابن علي الخير ذو النوال
أني أنا جعفر ذو المعالي
حسبي بعمي شرفاً وخالي
ثم برز أخوه عثمان بن علي (ع) وهو يقول: شيخي علي ذو الفعال الطاهر
أني أنا عثمان ذو المفاخر
وسيد الكبار والأصاغر
هذا حسين خيرة الأخيار
بعد الرسول والوصي الناصر
ولما برز العباس عليه السلام أخذ يقول: بابن علي المسمى حيدرة، أنا الذي أعرف عند الزمجرة، ولما دخل المشرعة واغترف من الماء غرفة ليشرب تذكر عطش الحسين(ع) وقال: يا نفس من بعد الحسين هوني، وبعده لا كنت أن تكوني، وتشربين بارد المعين،
هذا الحسين شارب المنون.
أدوار المرأة
من خلال استعراض الأدوار الأساسية التي قامت بها المرأة المسلمة في الثورة الحسينية، يمكننا أن نستنتج ما يمكن أن تقوم به المرأة المؤمنة في المجتمع الإسلامي من أدوار، إضافة إلى دورها المتميز في بناء القاعدة الأساسية للمجتمع الإنساني، وهي الأسرة التي يكون للمرأة في بنائها الدور الأساس، فضلاً عما وهبها الله سبحانه وتعالى من مواهب ذاتية، تفتح لها أبواب التكامل في المسيرة الذاتية الفردية لها في العلم والمعرفة والعبادة والتقوى والإخلاص لله تعالى والبذل والعطاء لإسعاد البشرية، وفي هذا المجال نجد أن المرأة العراقية في كثير من المواقف والأحداث قد استلهمت وتسلحت بهذه الأدوار، فهي أم الشهداء والزوجة العفيفة التي أعالت أبناءها بعد وفاة زوجها، وتلك الصابرة الصامدة في وجه كل الصعوبات والمحن التي حلت بالبلد في مختلف الظروف.