الحياة في دائرة الضوء

منصة 2024/08/07
...

 حبيب السامر

يقدم التشكيلي طاهر حبيب لوحاته بحس تجريدي يميل إلى سرد حكاية غنائيّة على القماشة، مستثمراً اندفاعات الطاقات اللونيَّة المبثوثة لتأخذ المشاهد في سياحة بَصَرية، وهو يضع أصابعه على إجابات استدلالية مشرقة كـ "الظل المضيء"، حين تتعامد أشكاله المستوحاة من واقع مرير يسجله بخفقات ريشته اللون المتناوب والمتكامل مع جملة التفاعلات الروحيَّة المسفوحة على مخلوقاته في ساحلها الأزرق، مروراً بمشاركات تتغذى عليها أشكاله المتناثرة بتقاطعات لونيَّة مبهرة، تشكل عوالمه التي امتدت منذ تخرجه في كلية الفنون الجميلة/ بكالوريوس رسم فنون جميلة، ليصبح بعد ذلك عضواً في جمعية التشكيليين العراقيين، وعضواً في جماعة آبسو للتشكيل، ليبدأ معارضه الشخصية منذ عام 2005 في قاعة فائق حسن في البصرة، وتوالت المعارض لتشكل في أجندة تأريخه الفني ثمانية معارض بين بغداد والبصرة وبابل.
 وقد توزعت معارضه هذه لتكتسب عنوانات بارزة "الظل المضيء، العالم الثاني، الحياة في دائرة الضوء، محنة اللون، حياة صاخبة، ومخلوقات الساحل الأزرق" اختارها بعناية واضحة ليشاكس الضوء في مجمل معارضه بأشكال تخترق التجريب وتوازي تجربة سنوات عدة، ليقول الفنان كلمته تحت كشاف الضوء في محنته الأبديَّة، كما يتوازن الظل في مسروداته المتشعّبة ليثبت للجميع بأن ظلالنا مضيئة تحت كل الظروف حين يقول الفنان كلمته اللونيَّة.
القاص محمد خضير قال عنه: قد تكون المصادفة وحدها ما تزجّ رحلةَ الفنّان السابعة برحلات السندباد الشهيرة، فيُثري المعرضُ خيالَنا بالتجوال بين مناظر معاصرة بعيون غابرة. ألم ترِد في الرحلات القديمة ما يناظرها من وجوه ممسوخة وتحوّلات خرافية في لوحاته؟
للناقد التشكيلي خالد خضير الصالحي رأيه في أعماله: لا يؤمن حبيب بهيمنة الهامش السردي في الرسم، حرصاً منه على ابقاء الصورةِ معتمدة على وسائلِها الخاصةِ؛ وتقليص حاجتها الى التأويل الذي يقوَّلها ما لا تقله؛ فيتجنّب ما يقودُ إلى تمكين الـ (سرديات) من اختراق عملية التلقي وتوجيهها.
عادةً، تكون الكتابة ضمن مناخاتها وانعكاسات لتواجده في أمكنة الحدث، من هنا يتحسس الفنان تجربة المدينة التي سكنها وهي مدينة سامسون التركية بساحلها الأزرق، لذلك سعى إلى توثيق اللحظات المعيشة هناك بمجموعة من لوحات تُحاكي اللون الأزرق وأشكال غرائبيَّة وكأنّها من عوالم الفضاء، إذ منذُ أكثر من ثلاثة عقود مضت وهو يجري اختباراته على الشكل البَصَري الواقعي، محوراً تفصيلاته ومنوّعاً في خاماته بين ألوان الزيت والكولاج واقلام الباستيل ومواد أخرى.
عن تجربة معرضه الشخصي الأخير "مخلوقات الساحل الأزرق" قال حبيب: هو انطباع عن مدينة تقع عوالم بيئتنا، أقصد خارج مديات مدينتي "البصرة" وفي فترة فايروس كورونا بالذات اعتمدت على تحويل الأشكال الآدميَّة والماديَّة إلى أشكال غرائبيَّة مفترضة امتزجت مع مكملاتها الأخرى لتؤكد قصدية التعايش بوصفها مقترحات خيالية رسمت من خارطة الاعمال المستوحاة من سواحلها الزرقاء، ومن وجوه قابعة في الذاكرة، نعم أعتمد على استدعاء الذاكرة في أعمالي، لأن الفنان بإمكانه تحويل أعماله إلى مختزلات كثيرة من خلال الممارسة الطويلة في الرسم والخيال الواسع وكذلك القراءة وإمعان النظر الى الأشياء الممزوجة بين الحقيقة والذاكرة.
 ومن خلال التمعن في تجربته التي امتدت لأكثر من ثلاثة عقود، مارس فيها فن الرسم وهو ينفذ اللوحة وفق طقسه المحبب الذي يشتغل عليه في بلورة الموضوع عبر اعتماد أدق التفاصيل في تنفيذ أشكاله المحبّبة لذاته، والمنطلقة بهدوء لتسحبنا إلى عوالمها الخاصة، معتمداً على ذهنيّة خصبة يترجمها بالكتلة اللونيّة المستعملة على قماشة اللوحة ليشد تركيز المتلقي الى نوعية الخامات المستخدمة في عناصره والاشتغالات التي تأخذ مسارات أعماله المكثفة التي تعتمد أحياناً على الغرائبيّة، حيث يأخذ الحراك التجريبي السمة الأكثر تعاملاً في منظومة العمل الفني الذي يفضي إلى فضاءات تعطي المتلقي بعداً فنياً لمجمل اللوحة وتوظيف البعد الفلسفي في أغلب الوقت ممتزجاً مع التماهي الفكري في العمق، وبهذا تأخذ اللوحة المساحة التأويليّة والقراءة المتعددة للشكل الواضح على سطح القماشة، في حين تظهر قراءات أخرى في العمق، وهذا سر نجاح الفنان في استقطاب عناصره المؤثرة.
يؤكد حبيب حقيقة التمازج بين التجارب الشخصية التي تنعكس في معارض تشتمل مشاركة عدد من الفنانين ممن تتقارب تجاربهم الزمنيةً، ومدارس اشتغالاتهم، كون الأساليب التي تتخذ من أعمال الفنانين في معرضهم المشترك، يلمس المتلقي والمتابع لحركة الفن، بأن خط كل فنان يتعامل معه، ليوضح ثيمة العمل والتكنيك وحركة اللون تأخذ حرية أكثر، وهذا ما يميز جماعة (آبسو) هو لكل فنان من هذه الجماعة له خطه وحرية تعبيره وتوزيع المساحات اللونيّة، حيث يرفض حبيب وضع تسمية وعنوان أسفل اللوحة منطلقاً من مفهوم المتلقي المختلف للوحة وترك حرية إعطاء العنوان المباشر من قبل المشاهد، و"هذا النهج الفني أتعامل معه دائماً، لكن هناك اشتغال على العنوان الجامع للمعرض، حيث أطلق على معارضي الشخصية عنوانات رئيسة كدالة مباشرة على بؤرة الثيمة للمعرض".