تنصب أحاديثنا النقدية على المرئي في الصورة الشعرية، أو على المحسوس منها، وأحيانا على دلالة الملفوظ، هذا المعطى بجمالية اللفط والتركيب، ليس هو كل ما في الصورة، بالرغم من أنه يباشرنا الرؤية. لقد وقفت الصورة منذ أوليات النقد العربي عند قدامة والجرجاني وغيرهم، عند ما يلفظ منها، عند تأثيرها العياني والفكري، عند استدعاء ما يماثلها من صور، والأمر ليس غريبا، فالمحسوس هو النافذة الكونية الكبرى التي قادت الشعر والفلسفة لمدارتها، ومن ثم قادت الذائقة النقدية لرؤية المعنى المختلف في الصورة، وقدرتها على استيعاب المعنى من عدمه، وتصورها لما يمكنه أن يكون حالة مقنعة للقراءة العادية. لكن الصورة بمدارجها المختلفة، لا تعامل إلا معاملة النص، وبما أن النص ليس شكلًا ثابتًا، للقراءة، تكون صوره هي الأخرى غير ثابتة للقراءة، فالصورة البؤرية التي تشع داخل النص وتوزع ضياءها على أجزائه، لاتفيدها القراءة العادية، بقدر ما تكون مكتملة عندما تؤسس أفقًا معرفيا يتجاوز مفردتها، فالصورة ليست كيانًا معزولًا عن حركة التأويل، وليست تكوينًا قارًا بذاته لا يمكنه الإنزياح لغيره، بل معناها الجوهري ثاو في تضاعيف النص الغنية الدلالة، وطالما وجد الباحثون جوهر الصورة فيما تؤول إليه في مواضع أخرى من النص. ولن تنفع التأويلات الممعنة في الغرابة لفهمها ، فقد تضيع علينا الأشارات الكثيرة التي توضع على أعمدة الطريق لإرشاد السائح لما يريد، فقد تغري المتع الفنية لهذه الإشارات دون الطريق، لكن اشارة واحدة تكفي لتقول لنا، ان ما نرغب فيه هو هناك. فكيف إذا كانت الصورة تتحدث عن متحرك؟
تعطينا القراءة المتأملة للصورة الشعرية، أنها تحتوي على ثلاثة مستويات للرؤية: وعلينا قراءتها، والتمعن في أبعادها، ومن ثم نتحدث عما نراه فيها، وبدون فهم هذه الأسس، سنبقى في الذي يباشرنا في الصورة. المستوى الأول: هو الواقعية المباشرة للصورة، كل صورة شعرية وغير شعرية تنطلق من واقع، مصدر ما يرسلها للعين بطريقة أو بأخرى، فإذا كانت الصورة الشعرية انعكاسًا عن واقع ما، سميت هذه الصورة صورة لواقعية مباشرة. ويعني ذلك أن رؤيتنا لها لا تتعدى مظهرها الخارجي. والواقعية المباشرة دائما تكون رومانسية التلقي، بمعنى أنها تكتفي من الأشياء بمنظرها الخارجي دون تفاصليها، ونجدها عند سائحي الأهوار، يتمتعون بجمال صورها الطبيعية، لكنهم لم يروا الأوبئة والحشرات والتلوث في صورتها الكلية.
المستوى الثاني للصورة، هو ما نراه نحن بقصدية الرؤية، أي الرؤية الموجهة أساسًا للكشف عن ابعادها المختفية، فلو نظرنا لقصباء الأهوار وزوارقها، نظرة قصدية ستكون الأشكال الخارجية مجرد نوافذ أو عتبات للدخول إلى ما لايرى في القصباء والزوارق، تلك الحيوات الصغيرة والأيدي العاملة، والجذور النامية وتشابك الطين بالضوء، وتداخل المرئي بالأفكار التي تكونها القيمة الأقتصادية والسياحة والجمالية، ثم الرغبة في جعل هذه المواد من أوليات الاستثمار وتطوير البنية التحتية لتصبح الأهوار ليس قصباء وزرقا بل تراثا وقيما تاريخية وجمالية، إننا في الرؤية القصدية نبحث عن اللامرئي في الصورة، عن التكوين الجمالي الفني الذي بنيت عليه هذه الصور.المستوى الثالث للصورة، هو تحويلها إلى لغة، وجعلها منطوقة مقروءة مسموعة مشمومة مرئية، دون ان يكون لها حضور عياني، اي انك تستحضر الشيء كخيال، أي الكيفية التي ترى فيها الفنية التي يمكنها أن تصبح لوحة او دراما او حكاية بين طائر وسمكة. أي خلق النص الذي يكمن في ابعادها اللامرئية، ومثل هذه الصور نجدها عند الشعراء ،والمهلوسين، والمجانين، والفنانين، والنقاد التجريبيين. أولئك الذين لا يضعون مقياسا محددا للرؤية. أي أن المخيلة هي التي تبتدع الأشياء، ودائما تكون اشياؤهم مغايرة لما في الواقع. الصورة تكمن في هذه الرؤية.