د. صافي العمّال
تعمل الكتابة لدى الروائي محمد مزيد على البحث عن قارئ لا يمل من حدوته أو حكايته، فهو يواكب في فرش سرديته بالشغف الذي عرفناه في رواياته السابقة "سرير الأستاذ، نساء هليل الثلاث، و حبابة" مستغلا امكانياته في بناء جملة سردية شاعرية، لا زيادة فيها ولا نقصان، مستغورا في العوالم النفسية لأبطاله.. أسوق هذه المقدمة وأنا اقرأ روايته الجديدة "رازقية والثور"، حيث يعلم الكاتب أن العواطف والوجدانيات الإنسانية، والغرائر التي جُبلنا عليها هي من أكبر الدوافع الأساسية للكتابة الأدبية بمختلف أجناسها ومشاربها، وعلى وجه الخصوص منها الرواية.
لقد تحلى مزيد في "رازقية والثور" بحرية الحركة لشخوصه، والاتساع في المرونة والتمسك الماهر بخيوط الأحداث وحركية المؤثرات الأخرى السمعية والبصرية والذوقية، ويبدو أنه كان واعياً منذ البداية بما ستؤول اليه الاحداث اللاحقة، إذ لا تجد مشهدا نافرًا وانك تراه في صميم الهيكل العام للرواية. فالحوار والشخوص والمكان والزمان هي بيئة خَبَرها الكاتب، عن قرب أو بعد أو استماع أو تخيل أو قد يكون قد أطلَّ على بعض مشاهدها من بعيد! وفي النهاية استطاع ببراعة تصوير حياة عاشها أو كان يعيشها آخرون!
لم يَغفل مزيد أن موضوع الرواية إذا ما سطّحناها ببراءة وحسن نية، أنه قد يكون متماهياً مع أبطاله ببراعة في تصوير عوالمها المتشعبة، قد تكون "رازقية" عراقية فاتنة جذابة جنوبية، يشتهيها الرجال بطبيعة الحال، ومن هنا انطلقت براعة الكاتب في المسك المرن بخيوط الغواية، واستعمالها بحرفية عالية في التلاعب بمشاعر القراء، والعزف غير الرحيم على الجانب الغرائزي فيهم! ولم يُفلت ذلك الخيط حتى المشهد الأخير، إذ تجلت براعته وحنكته بأن يبقي هذا الفضاء المحور الأساس الذي ينطلق منه وفق منظوره الذي يتشارك به مع المتلقي، محاولا تمرير نقده لمرحلة سياسية واجتماعية مر بها البلد! ولأجل ذلك فقد نَذَر الكثير من الشخوص والأبطال الذين كنا نعول عليهم كثيرا في رسم ملامح وتوجهات أخرى للرواية، إلا أنه بَقيَّ مُصرَّاً على نَحرِهم قُربان لردفي "رازقية"، الذي بقي مشهد حضورها الفاتن حاضراً في المستودع الغرائزي للقارئ.
أبدع مزيد أيما إبداع في الغوص بدهاليز "الهو الغرائزي" لدى القارئ، الذي أبقاه فاغراً فاهه متحسراً، وهو يلعَقُ شفتيه من عسل الغواية الموهوم، الذي سرعان ما يتبدد عند نهاية كل فصل جديد يلتهم سطوره! فقد تمكن الكاتب بحرفية لا تخلو من امعان برسم ساديته في فرش تلك الغواية على "أن يذهب بنا إلى شط رازقية ويعيدنا إلى بيوتنا عطشى".
تلك السادية التي قد يكون جزءا منها قد تسرب إلى نفس الكاتب من "رازقية – ليليث" ذاتها ملكة الغواية، التي أحجمت عن البوح بمشاعرها ووجداناتها المتعلقة بالطاقة الجنسية "الليبدو" المعطل لديها! فلم تَكشف لنا هسيس مشاعرها الغرائزية، وكنا نُعوّل على "سمير" ذلك الصحفي الذي أعجب بها، وخذلنا عند مقتربات النهاية، فقد كان فاتراً، منكفئًا، عديم الحيلة والقدرة على ايقاد مَوقد الحب في امرأة فائرة فاتنة! وأوقعنا مزيد كقراء في حيرة وتعجب كبيرين!
فمن بديهيات الأمور ومسلماتها، أن "اللبيدو" يكون فاعلاً ونشطاً لدى المرأة، التي تحتكم إلى معطيات الجمال والفتنة والغواية، وهي تمتلكها فعلاً، ووفقاً لوصف أبطال الرواية وشخوصها، عدا ذلك العنين "جويسم"! وقد يكون الكاتب قد ذهب مع رأي القارئ الحصيف، الذي وجد أن الحياء الذي رضعته من بيئتها المحافظة عذراً لها، مع أنه تبرير محبط بقدر أو بآخر.
لقد استثمر الكاتب مفهومي يونك "الانيما، والانيموس" في روايته ووظفهما في طبيعة السرد ومدلولاته، فالكاتب رجل يبدو أن قلبه لازال أخضرا، إذ أسقط كل ارهاصات الاثارة والغواية التي كابدها لينقلها إلى ألقارئ، وكان قريباً منا نحن القراء الذكور، ولم يَغفل في ذات الوقت أن يوظف "الانيموس" في الغور بالنفس الإنسانية الانثوية لتكتشف "رازقية" فطرياً نوايا ورغبات الرجال الذين صادفوها وتتحسب لأفعالهم المتوقعة!
كان تصميم مزيد لروايته تصميماً محكماً، إذ لم تنفصل وقائع الرواية عن بعضها بعضاً، وهذا يؤشر إلى أن لدى الكاتب فكرة عامة، وقد تكون تفصيلية عن سير الأحداث، قبل الشروع بكتابتها، فقد درس التفاصيل ونظم الأشخاص والأحداث في أماكنها وأزمنتها الصحيحة، وجعلها تتلاقى في خاتمة، بالرغم من أنها كانت خاتمة مستعجلة ودراماتيكية سريعة بوعي مزيد لا برغبة القراء ومزاجهم! كما أن الاقناع كان سائداً في معظم مفاصل الرواية، عدا بعض الأحداث، التي نَعدُّها نحن القراء هفوات! إلا أنها تبدو متعمدة من الكاتب، خاصة فيما يتعلق بتهميش دور بعض شخوص الرواية، إذ كان بإمكان مزيد استثمار "ناصر" رجل الدين المعمم، وإعطاؤه دوراً أكثر محورية في علاقته بـ "رازقية"، يتعدّى حسنته الوحيدة حين سترها بعباءته، وتلك لعمري يمكن أن يفعلها أيٌّ من رجالات القرية وشبابها. ويبدو أن الكاتب حاول النأي بنفسه عن الخوض في هذا المخاض الشائك، الذي قد يجلب صدعاً للرأس، في علاقة رجل الدين بالمواطن في هذه المرحلة على أقل تقدير! كما استعمل الكاتب أساليب عديدة في السرد لم تَخِل منها الرواية وتشابك أحداثها، إذ تكفَّل بمعظم جوانب السرد بطريقة شخصية مباشرة، وتحدث أيضاً على لسان أبطال الرواية وشخوصها في أحيان أخرى. استمتعت كثيراً بالفصول السبعة والأربعين، لرواية أعدها اشتغلت في "اللبيدو الجنسي" أكثر من اشتغالها في دلالات "الحدوته" التي انطلق منها ليدين بها النظام السابق وطغيانه ضد أفراد الشعب.