مقاربة ثقافيَّة للتراث العراقي غير المادي

آراء 2024/08/11
...

 د. عبد الواحد مشعل

وجد التراث الثقافي غير المادي، صداه في ذاكرة الإنسان العراقي بعدّه صانعَ أولى الحضارات في التاريخ حتى رافق التراث الثقافي الشعبي غير المادي ما أنتجته الحضارة العراقيَّة خلال التاريح مظهرةً التراث الثقافي غير المادي على وفق مسارات أقرَّتها الاتفاقيات الدوليَّة في هذا المجال ومنها ما نالته من اهتمام اليونسكو
تشيرُ الكثير من المراجع الى أنَّ التراث الثقافي غير المادي (Intangible cultural heritage) من المعاني والمفاهيم الأساسيَّة التي تجسدُ السلوكيَّات والتصورات والمعارف والممارسات الشعبيَّة في المناسبات المختلفة في مجالات تعبيريَّة عن الاحتفالات والمواقف المختلفة وهي بكل تأكيد تعبّرُ عمَّا يرتبط بها من موادّ صنعها الإنسان العراقي بمهاراته وفنونه المتجسدة في منجزاتٍ ماديَّة وأدواتٍ أظهرت نشاطه في مرحلةٍ ما، وعدَّها جزءاً من تراثه الثقافي، لها دلالاتها ورمزيتها، لذا وجد التراث الثقافي غير المادي، صداه في ذاكرة الإنسان العراقي بعدّه صانعَ أولى الحضارات في التاريخ حتى رافق التراث الثقافي الشعبي غير المادي ما أنتجته الحضارة العراقيَّة خلال التاريح مظهرةً التراث الثقافي غير المادي على وفق مسارات أقرَّتها الاتفاقيات الدوليَّة في هذا المجال ومنها ما نالته من اهتمام اليونسكو.
ولا شك أنَّ مقاربة علميَّة تتبعيَّة، تجد أصالة التراث الشعبي العراقي بامتداداته الثقافيَّة، ودلالاته ورمزيته في التراث الإنساني، ما يجل العالم ينظر بتقديرٍ الى الدال على الأصالة العراقيَّة وخصوصيتها الثقافيَّة، وبيان قيمته من خلال التراكمات التي أنتجت البعد الهوياتي، وقيم التعايش في نسقٍ ثقافيٍ قائمٍ على الاحترام المتبادل بين تكويناته الثقافيَّة. كذلك تعززت قيمته الحضاريَّة، كونه يجسد المشتركات الثقافيَّة بين أبناء البلد الواحد، وبقيمة رمزيَّة التعبير عن الإنتاج المادي المعبر عن المتناقل خلال الأجيال، وقدرته على التجديد بما يمتلكه الإنسان العراقي من انسجامٍ ثقافيٍ يعبر عنه باللغة والإنجاز والتعبير العاكس لقيمة وأهميَّة التراث الثقافي غير المادي في سجل الإنسان منذ القدم وحتى المرحلة الحاليَّة، معبراً عن سمات الهويَّة العراقيَّة في شكلها ومضامينها الثقافيَّة، كما يعبر في سياقه العام عن قيمة الإنسان الممثل لهذا التراث الذي يرمز في أحد مفاصله الى التنوع الثقافي الذي يكون من أكثر الدوافع للإبداع والإنجاز، والمدافع والمعتز بتراثه الذي ورثه خلال التاريخ، وما أضاف إليه الأجداد من إبداعٍ وتجديدٍ وتحديثٍ تعكسُ الأصالة في بلدٍ موغلٍ في عمق التاريخ.
ولا يغيب عن البال أنَّ التراث الثقافي غير المادي يقوم على أسسٍ ينبغي ألا تغيبَ عن البحث، منها أنَّ هذا التراث ينقلُ شفهياً من جيلٍ لآخر محتفظاً بقيمته الاعتباريَّة، وهذا يقودنا الى الحديث عن عمليَّة التوريث عبر الأجيال، وهو ما يعطيه الأصالة في الإحساس والتوافق بين الأجيال المتعاقبة، في سياقٍ لغويٍ يعبّر عنه بدلالات ورمزيَّة عن ذلك التراث بذاته، مميزة الانتماء وهويَّة مشتركة عرفها أبناءُ الرافدين خلال تاريخهم.
كما يمكن أنْ يظهر لنا من خلال تتبع التراث العراقي خلال التاريح برؤية انثروبولوجيَّة تعطي لهذا التراث مكانته الاعتباريَّة بين الأمم، ما جعله يحظى بتقديرٍ واهتمامٍ عالميين على وفق المسار الذي يتفق مع الاتفاقيات الدوليَّة، بعدّه جزءاً مهماً من التراث العالمي، على أنْ تكون المقاربة في هذا المجال معتمدة على مجموعة التعبيرات والسلوكيات الثقافيَّة وعلى ما تحمله اللغة من معانٍ ومضامين تعبّر عن رمزيَّة تعكسُ قيمة التراث الثقافي غير المادي، بعدّه متمثلاً بالممارسات الثقافيَّة المشتركة بين أبناء الرافدين في صيرورة حضارتهم الحيَّة، وليس تركه في المتاحف جامداً.
وإزاء هذا التصور عن تراثنا الثقافي غير المادي، ينبغي التنبه الى التحديات التي تواجهه في عصر العولمة الكبيرة، فتسارع دخول العناصر الوافدة للثقافة المحليَّة القائمة بوصفها تمثل تهديداً لقيمنا الجمعيَّة المتماسكة بسبب ما تحدق بها من مخاطر التفكك والاندثار، وبالتالي تهديد هويتها وخصوصياتها الرمزيَّة، ويفقدها المعنى والدلالة التي تعبر عنها، لا سيما أنَّ أشد التحديات يتمثل بما تواجهه الأجيال الجديدة السابحة في فلكٍ مغايرٍ تماماً لما درج عليه الأسلاف، لذا ينبغي على القائمين على الأمر أخذ تلك المخاطر التي تهدد تراثنا الثقافي الشعبي غير المادي بنظر الاعتبار، فالأجيال الجديدة إذا ما أحسن إعدادهم إعداداً معرفياً، ستتمكن من إنتاج تراثٍ ثقافي لا ينفصل عن أصالة مجتمعهم، ولكنْ بصيغة تحديثيَّة، يمكن أنْ تقدم التراث الثقافي العراقي بآليَّة لا تختلف في جوهرها عن أصالة الحضارة العراقيَّة نفسها.