رعد اطياف
يتصارع الناس فكرياً من أجل إثبات وجهات نظرهم المتعلقة بالدين أو بمنظومة فكرية أخرى، ويسارع الفريقان بتحشيد كل الطاقات الممكنة، لكسب المباراة وحصد أكبر عدد ممكن من النقاط. لكنّ أمراضنا النفسية ورذائلنا الأخلاقية طيّ الكتمان؛ فكلا الفريقين متورطان بالنفاق، والكذب، والحسد، والغيرة، والجشع، والتكبر، والتغابي، والأنانية.. إلخ من الرذائل، التي تتصف بصفة الكونية! أي أنها خصمنا المشترك مهما كانت هوتنا
الثقافية.
يمكننا أن نتجادل بوجود الله من عدمه أو بأحقية هذا الدين أو ذاك أو بموقفنا الإلحادي أو اللاديني، ولكن في نهاية المطاف تتقنّع هذه المواقف بأقنعة زائفة تخفي من ورائها سموماً نفسية خطيرة.
لا المتدين، عموماً، استطاع أن يعطينا النموذج الأخلاقي في حياته العملية، ولا غيره، عموماً، ممن يصدعون رؤوس العالمين بتنويرهم المزعوم.
بالطبع هنالك استثناءات من كلا الفريقين، لكن الغاية من هذه الكلمات هو تسليط الضوء على هذا (التنين النائم/ الأخلاق!) الذي لا يتمتع بأدنى اهتمام، علماً أنه يحدد الكثير من سعادتنا وتعاستنا، أي سلامنا الداخلي، لكنّه يبقى مهملاً لصعوبة تطبيقه وخطورة مواجهته! لأنه سيستثير عاداتنا المتأصّلة التي تشكّل هوياتنا، فتجري لدينا مقايسة خفية، بين أن نحوز نعمة الفهم، وبين البقاء في سجن العادات المظلم، فيقع الاختيار، لا شعورياً على الأول، ونفقد الصلة تماماً بين المعرفة والسلوك، وتغدو شعاراتنا شكلاً
بلا مضمون.
نحن نعلم جيداً إن هذه الرذائل الأخلاقية تسلب منّا راحة البال، ونعلم جيداً أن الانفعال يحيل لحظاتنا إلى جحيم، إلا أننا نتمسك بغبائنا حد التوحد، وما يهم هو انتصار حجتنا على حساب فهم الأشياء. بكلمة واحدة: أن فقدان الدافع الأخلاقي يفتح بوابة الشقاء على مصراعيها.
يجري تسخيف الأخلاق بحجة نسبيتها وبصرف النظر عن الدخول بهذا الجدل فما ذكر أعلاه تعاني منه أغلب البشرية على حد سواء: مؤمنهم وملحدهم، ثم أن نسبية الأخلاق لا تعني العدمية! فهذه التبريرات يجري تسويقها للهروب من
مسؤوليتها.
إذن لدينا مساحة واسعة جداً للتضامن على رفع معاناتنا أياً كانت توجهاتنا، فالسعادة غاية الكائن البشري ولا سعادة حقيقية بهذا الكم الهائل
من الأعطاب الأخلاقية. معيار نجاح أي مجتمع ما هو اهتمامه برفع المعاناة عن نفسه والآخرين عبر العمل السياسي، والاقتصادي والاجتماعي.
وإذا رأينا غير ذلك فالفشل هو التوصيف الوحيد المطابق لواقع هذا المجتمع. فرفع المعاناة لا يرتبط بمسلك رهباني، بقدر ما هو فن للعيش؛ أن نرى الأشياء كما هي لا كما تصوّرها انفعالاتنا السامّة. حينئذ نتحول إلى جماعات تتآمر على نفسها بافتعال مشاكل ذهنية لا واقع لها، وتغدو معظم الأشياء موضوعاً للتفكير المجرد لا عيشها كما
هي.
سنجانب الحقيقة إن لم نعترف بهذه الحقيقة: إن حقوقنا السياسية والاقتصادية التي يضمنها القانون لا تشكل أولوية قصوى في قاموسه حتى هذه اللحظة. ومعلوم إن مجتمعاً كهذا، يسهم مساهمة فعالة في إنتاج ظواهر اجتماعية وسياسية
متردية.
لكن الإشكالية الماثلة حتى هذه اللحظة هو غياب الإرادة الحقيقية لعبور المعاناة، فإرادة التناحر والتباغض والانقسام هي العنصر المشترك بين مختلف الفئات الاجتماعية، والقضية أبعد من كونها دينية أو دنيوية، وإنما سياق ثقافي مضطرب لا يحسن تحديد أولوياته حتى هذه اللحظة.