د. نادية هناوي
إذا كان التنظير لضميري الغائب والمتكلم قد طغى على نقاد الرواية الروس والأمريكان، فإن الحال كان كذلك مع نقاد السرد البنيويين. فرولان بارت مثلاً افترض أنّ فعل الكتابة لا يتم من دون أن يصمت الكاتب، لأن زمنه زمن ملحمى من دون حاضر ولا ماض. ومن ثم لا إشكالية في اختيار الضمير أو في عمل الضمائر. ذلك أن الأساس - بحسب بارت- هو ضمير الغائب المفرد الذي هو ليس خديعة من خدائع الأدب، وإنما(هو فعل مؤسسة متقدم على كل ما عداه: أن يكتب الإنسان
يعني أن يقول هو، ويعني أيضاً القدرة على قول ذلك.
وهذا يفسر أن الكاتب حين يقول أنا، وهذا يحدث غالباً لن تكون لهذا الضمير أية علاقة بالرمز الإشاري. إنه علامة نظمت رموزها بدقة. هذه الأنا ليست إلا هو من الدرجة الثانية أو هو مستعاد ومحوَّل.) وبهذا يكون عمل ضمير المتكلم متداخلاً بعمل ضمير الغائب كاشتغال تفرضه لغة التواصل الألسنية، وتتحدد آليات التداخل بحسب بارت في المناحي الآتية:
- أن الضميرين أنا وأنت - في لغة التواصل الألسنية- مفترضان الأول نسبة إلى الآخر.
- لا سرد من دون منشئ ومستمع أو قارئ وشخصيات. وهذه كلها بالضرورة كائنات من ورق.
- أن استعمال ضمير المتكلم طبيعي؛ فدور المرسل أُشبع تفسيراً يدرس الباحث” المؤلف” دون أن يتساءل عما إذا كان هو المنشئ حقا.
- إن علامات المنشئ أكثر وضوحاً للعيان وأكثر عدداً من العلامات الدالّة على القارئ؛ فالسرد يقول غالباً (أنا) أكثر من قوله(أنت).
- أن الإخبار بصيغة المتكلم علامة على القارئ، وَجَدَه بارت قريباً مما يدعوه جاكوبسون (الوظيفة الغيبوبية للتواصل)
- إن(السرد وبالأخص الرواية ليس إلا تعبيراً عن الأنا الخارج عن نطاقه). وهذا ما يصنع من المنشئ نوعاً من الضمير الكلي اللاشخصي.
- من يتكلم في السرد ليس هو من يكتب في الحياة، ومن يكتب ليس من هو كائن.
- إن السرد كما اللغة لا يعرف إلا نسقين من العلامات شخصي وغير شخصي. ولا يفيد هذان النسقان بالضرورة من ميزات ألسنية متعلقة بالشخص (أنا) وبغير الشخص(هو). فقد تكون مقاطع كتبت بصيغة الغائب ولكن حجتها الحقيقية بصيغة المتكلم.
- إن تحويل كتابة السرد من صيغة الـ(هو) إلى صيغة الـ(أنا) لا تؤدي إلى أي تشويه للخطاب وإنما هو تبدل الضمائر الإعرابية، فيتأكد البقاء داخل نسق الشخص.
- غالباً ما يكون الشخصي وغير الشخصي في حدود الجملة ذاتها، واستشهد بارت بجملة بنفينيست (لا شخص يتكلم في السرد)
- تتسم الرواية النفسانية بمزيج من النسقين، لأنها تحشد بالتتالي علامات غير الشخص وعلامات الشخص. والشخص النفساني لا علاقة له البتة بالشخص الألسني.
- أن يكتب المرء لا يعني أن يروي، بل يعني أن يروي المرء ويستحضر المرجع(ما يُقال)
واستناداً إلى هذه المناحي، لا يكون في عمل الضمائر أي اختلاف وظيفي، إنما هو تبدل وتحويل، ومثّل بارت على ذلك بقول جاك لاكان: (الذي أتكلم عنه حين أتكلم هل هو ذاته الذي يتكلم ؟)
ومن الطبيعي بعد هذا كله، ألا يكون لعمل الضمير عند بارت مساحة من التنظير، ومثله فعل أغلب البنيويين؛ ولم يروا في ذلك إشكالية أو عدم مألوفية.
بيد أن ثمة متغيرات استجدت في عالم النقد، حملت ما بعد البنيويين على أن يولوا عمل الضمير اهتماماً، ومن تلك المتغيرات: الإعلان عن عصر القارئ، وتوصلات فيليب لوجون النظرية حول توظيف ضمير المتكلم في الأدب الشخصي. ومنها أيضاً ما أخذته الرواية الجديدة - التي كتبها اندريه مالرو وميشيل بوتور والان روب غرييه وكلود سيمون- من حيز في كتابات المنظّرين والنقاد بسبب ما تحويه من تبدل في الضمائر والأدوار والأوضاع والعلاقات.
وممن خصَّ عمل الضمير بالتنظير جيرالد برنس؛ فتحدث عن المسرود المخاطَب(المُروى له narratee) وبين أنه الشخص الذي يُروى له في النص. ويتموقع على المستوى الحكائي نفسه الذي يوجد فيه السارد. ويتعين في هذه الحالة التمييز بين المُروى له والقارئ الضمني وبينهما والقارئ الحقيقي أو المتلقي. وإذا كان المُروى له هو جمهور السارد بضمير المخاطب، فإن السارد هو جمهور المؤلف الضمني. ولقد استدرك برنس مباشرة بالقول: (إن التمييز بين هذه التحديدات يظل إشكالياً لكون المُروى له يبدو حيناً غايةً في الوضوح وحيناً آخر يكون خفياً تماماً). ولم ير برنس في استعمال ضمير المخاطب أية إشكالية؛ لأن السرد برأيه يتضمن القصة والخطاب وهو أمر يدركه كل البشر، فهم يعرفون كيف ينتجون ويعالجون هذا السرد منذ عصور مبكرة، ولأن الضمير مجموعة علاقات قائمة بين السارد والمسرود (المروى له) والقصة المروية. ومن ثم يكون ممكناً أن يتواجد سرد المخاطَب، وفيه المُروى له هو الشخصية الرئيسة.
ومن المنظرين أيضاً والاس مارتن الذي اهتم بمفهوم(المُروى له) بوصفه فكرة تجريدية تستخدم لمناقشة أنواع البراعة التي يمتلكها القراء الحقيقيون. أما الضمائر فوجدها تتفاوت في عملها فلضمير الغائب قوة التوثيق ولضمير المخاطب قوة تفرض علينا أن نصدقه بقدرة استحالية (تزود بنظرات نافذة في الطرق التي بواسطتها يعيد التخييل الواقعي خلق عالم يشبه في كل مظاهره عالمنا الخاص.. ولا تعتمد تأثيرات الواقعية على العدد النسبي للأشياء الحقيقية والخيالية المسماة ولكن تعتمد على المستلزمات المرجعية التي تربط الأشياء وذلك وفقاً لما نعرفه عن العالم)
واعتنى واين بوث انطلاقاً من تركيزه على موقع المؤلف من العمل الأدبي بالأصوات السردية ونقل دراستها من النطاق السيكولوجي إلى ميدان التلقي القرائي، مؤكداً – خلافا لبارت - واقعية موقع المؤلف من نصه، وافتراضية موقع القارئ في هذا النص. ورأى أن صوت المؤلف لا يزعجنا البتة إلا إذا حاول هذا المؤلف أن يجلب الانتباه إلى نفسه وتصرفاته. وعندها تكون له شخصية ثانية هي (نسخة من الرجل الحقيقي المهتم بالأدب) أطلق عليها اسم(المؤلف الضمني) وأكد أن السؤال عما إذا كان حضور المؤلف ضاراً أم نافعاً هو (شيء عويص لا يمكن حلَّه بإحالته إلى قوانين مجردة.. يجب أن لا ننسى أنه بالرغم من أن المؤلف يستطيع في معظم الأحيان اختيار أقنعته، فإنه لا يستطيع أن يضمن اختفاءه من مسرح العمل القصصي)
وإذ لم يخصص بوث وهو يتحدث عن المؤلف مكاناً لضمير المخاطب، فإن ميشيل بوتور أفرد للضمائر مساحة خاصة، ولعله أول منظِّر يجد في ضمير المخاطب إشكالية نقدية، تتأتى مما يقوم به السارد من وظيفة، عدها بوتور مخادعة من ناحية أن(ما يقصه الروائي علينا لا يمكن التثبت من صحته). وهذا ما يطيح بواقعية ما ينبغي للرواية أن توصله من خطاب مقنع، ليس فيه خداع ولا تشكيك.