حسن سامي يوسف: عرَّاب الدراما السوريَّة

ثقافة 2024/08/14
...





سلوى عباس





إلى زمن ليس ببعيد، كانت رؤيتي للفن والأدب حالة خلاص من عالم القتل والدمار، إلى عالم مختلف نابض بروح الشعر والأدب والفن، لكن خساراتنا الأدبية والفنية الكثيرة التي ألمّت بنا هذا العام أحبطت كلّ ظنوني، لتضعني أمام يقين الحقيقة، أن هؤلاء المبدعين الذين ظننتُ في لحظة أن الموت لا يطولهم ولا يستطيع أن يخمد عنبر أرواحهم، قد أسلموا قيادهم للموت وأعلنوا هزيمتهم أمامه بلحظة هاربة من عمر الزمن، وربما اختاروه خلاصاً من عالم الحرب والخراب إلى عالم أكثر نقاء وأماناً،

 فكلّ يوم تطالعنا الأخبار برحيل قامة إبداعية لها بصمتها الإبداعية والإنسانية، وكل يوم نفاجأ برحيل ما. تسقط ورقة من شجرة الحياة، هذه الشجرة التي تتنوّع أوراقها بشتى أشكال الإبداع، وهذه الأيام قاسية جداً في غياباتها، إذ ضجّت بخسارات متوالية، واحدة تلو الأخرى، إنها دورة حياة لكبار اجتمعوا في زمن واحد، والآن يرحلون وكأنهم متفقون على أن يحزموا أمتعتهم للرحيل واحداً إثر آخر، بعد أن خاضوا كلّ في مجاله معارك إبداعية كثيرة، وفي كلّ معركة كانوا يفتحون نافذة نور وأمل، متمسكين بمبادئ هي الأولى في الحياة وبعدها يأتي أي شيء، تلك المبادئ كانوا ينسجونها كلّ يوم بصيغة جديدة تبعد عنها مواتها ونمطيتها، لتشعّ بروح جديدة في فضاء الفكر والمعرفة، واليوم نفقد مبدعاً كبيراً في الأدب والسينما والدراما، إنه الكاتب والسيناريست الفلسطيني السوري حسن سامي يوسف، الذي غادر دنيانا منذ أيام في دمشق عن عمر ناهز 79 عاما. 

الكتابة ومتعة الحياة الأولى

كان في الثالثة من عمره عندما غادر الراحل حسن سامي يوسف مع أهله، قريته “لوبية” في الجليل الفلسطيني، إثر نكبة فجائعية شردت شعباً آمناً هام في طول الأرض وعرضها، ومع كل الأماكن التي أقام فيها، ظلت فلسطين وطنه الأول الذي يحمله في وجدانه جرحاً نازفاً، وظلت أمانيه بعودة مأمولة تتسكع على شرفات روحه، لتصبح وعداً يتكسر في كل لحظة مئات المرات، فكانت الكتابة متعة حياته الأولى، ونشيده الذي رافقه في تشرده ورحيله، وأخذ يحصد من بيدر الإبداع سنابل متعددة، ويرفع شراعه في اتجاه معاكس للسائد من الأدب والدراما وحتى النقد، فسُجل اسمه خالداً في ميادينها، متأثراً بداية بفكر وإبداع أخيه الناقد المبدع وصاحب النظريات النقدية المهمة يوسف سامي اليوسف، إذ كان أديبنا يرى بحكم خبرته أن جُلّ العملية الإبداعية يتجذر في مزاج الكاتب، والمزاج هو الطبع الذي يولد مع المرء، ولكن يتأثر كثيراً بالحوادث الحادة التي يعيشها في حياته، ولا سيما بالكوارث الوطنية والاجتماعية التي من شأنها أن تشحذ الحساسية، وأن تمدها بزخم عارم لم يكن لها من قبل، والحساسية عنده – كما كان يقول دائماً: هي اليخضور الساري في شجرة الحياة كلها، وقد ظلت الكتابة حتى آخر لحظة من عمره متنفساً له ويراها خير تعبير عن الذات، وفعلا من الراحة والسلام المقرون بالغضب والأسئلة والاستفسار، فكان ينزف حبره على الورق ويغرف من مخزون التراث والحياة ما يفيض من قلمه نجوماً تستضيء بها الأجيال القادمة.

عمل الراحل ممثلًا في المسرح القومي بدمشق، وبعد نكسة عام 1967، أسهم في إنشاء فرقة المسرح الوطني الفلسطيني التي قدَّمت عروضاً كثيرة على مسارح العواصم العربية، وفي عام 1968 قدمت له وزارة الثقافة السورية منحة دراسية في الاتحاد السوفيتي، في المعهد العالي للسينما في موسكو، ونال شهادة الماجستير في الفن عام 1973، ثم عاد إلى دمشق وعُين في المؤسسة العامة للسينما رئيساً لدائرة النصوص، كما عمل مستشاراً درامياً للكثير من الأفلام منها: “وقائع العام المقبل، حادثة نصف متر، نجوم النهار، رسائل شفهية، الليل، صعود المطر، الإفطار الأخير، الطحالب” وغيرها، وهو عضو في هيئة تحرير مجلة الحياة السينمائية التي تصدر في دمشق، كما حصل على الكثير من الجوائز أهمها: جائزة محمد بن راشد للدراما العربية عن مسلسل “زمن العار”، جائزة التلفزيون السوري لأفضل سيناريو عن مسلسل “زمن العار”، جائزة أفضل سيناريو عن مسلسل “نساء صغيرات” في مهرجان القاهرة للإذاعة والتلفزيون، وبدءاً من مسلسلات: “شجرة النارنج وأسرار المدينة والشقيقات ونساء صغيرات وقبل الغروب وقلب دافئ، مروراً بأيامنا الحلوة وحكاية خريف ورجال ونساء والانتظار، وصولاً إلى زمن العار والسراب والغفران والندم وفوضى”، يطرح الراحل حسن سامي يوسف قضايا اجتماعية تتناول هموم المواطنين ومشاكلهم الاجتماعية والإنسانية، بكثير من الشفافية والصدق، لكنه أمام غزو تلك الميديا الساحقة التي يتجاوب معها كثيرون، يرى نفسه أمام تساؤل حول ما أنجزه من إبداع، سواء في السينما أو التلفزيون أو الأدب، ويتلبسه إحساس باللاجدوى أمام تلك الحالة الجديدة من الوعي التي أخذت تفرض نفسها على الناس، وبشكل خاص على جيل الشباب، لأن أي عمل إبداعي برأيه يوجه ويركز على الشباب وليس على كبار السن، فيقول: “أمام ما يعيشه الشباب من تخبط وغياب للحلم، وانجراف محطات التلفزيون إلى مجال الاستعراض والرقص والغناء، أتساءل ماذا أقدم ومن أجل من؟ فأعيش لحظات من الإحساس باللاجدوى، لكن في الوقت ذاته، ومن خلال احتكاكي بالمجتمع، أفاجأ بكثير من الناس يثنون على أعمالي ويشكرونني عليها، فأشعر بالغبطة والسرور أن ما أكتبه يلامس- بشكل أو بآخر- هذا النبض المهم والحساس لدى هؤلاء الناس الذين يستحقون أن أعمل لأجلهم، حيث يؤكدون لي أن الدنيا ما زالت بخير”، كما أعطته تجربته في المؤسسة أكبر صداقات عمره مع المخرج عبد اللطيف عبد الحميد، إذ تعاون معه درامياً في أغلب أفلامه، وبقي الاثنان رفيقي درب حتى في الموت، إذ رحلا معاً، وعن أسباب توقفه عن الكتابة بسبب عدم توافق قناعاته مع طروحات شركات الإنتاج، رد عبر صفحته “الزرقاء”: “لن أكتب يوماً مسلسلاً تلفزيونياً لا يشبهُنا، حتى لو أصبحتُ عاطلاً عن العمل”، وكثيراً ما كان يُعرّف عن نفسه بالقول: “أنا مواطن عادي في هذا البلد، أحمل همومه التي أحاول أن أتعايش معها، وأقول رأيي فيها واحتجاجي عليها”. 

رصيد الراحل الكثير من الأعمال الإبداعية، سواء في الأدب أو الدراما أو السينما، ورغم كل هذا النتاج الفني، ظلت الرواية فضاءه الذي يتيح له فسحة من الحرية والمتعة واستمرارية الكلمة، ولعل الجديد الذي قدّمه أديبنا عبر تجربته، هو بحثه في دواخل الشخصيات، لأنه المجال الذي لا ينضب بسبب اختلاف كل نفس عن الأخرى، مما يعطي هامشاً واسعاً يمكن للإنسان أن يتحرك فيه، وأن ينبش داخل الناس وما يختلج في أنفسهم، سواء في الحب، أو الحرب، أو الغش، أو الصداقة، أو أي موضوع يتاح تناوله من زوايا ليست معروفة للمشاهد، من منطلق البحث عند أشخاص لديهم سلوك آخر تجاه أي موضوع، وهو من خلال أعماله هذه أعاد الاعتبار للحكاية التلفزيونية بكل حيثياتها وألقها.

في أحد حواراتي معه سألته عن مقولة له تضمّنها مسلسل “نساء صغيرات” هي: “إن الكتابة بسيطة مثل الحقيقة”، والحقيقة كما يراها هي مثل “الهواء والمطر، هي الموت، فليس هناك خلود على وجه الأرض، وأضاف: “أنا هنا لا أتحدث عن الحقيقة بمفهومها الفلسفي المجرد أبداً، إنما عن الحقيقة التي نعيشها في لحظاتنا كلها”.

وأعدت السؤال عليه: “هل الكتابة بهذه الدرجة من البساطة”؟ فأجابني: “تماماً، الكتابة بسيطة جداً، ولكن لكي يكون الإنسان كاتباً يجب أن يمتلك الرغبة في الكتابة أولاً، وأن يمتلك الأدوات التي تتمثل في الثقافة والمعرفة بكل ما يدور في الحياة من تفاصيل، والموهبة تخلق مع الشخص بالفطرة”.

لقد رحل حسن سامي يوسف، لكن أفكاره التي ضمنها أعماله ستبقى كشلال يتدفق ويمنح الإبداع سحراً يوقظ شغف كل من يقرأها، أن يكون المداد الذي يلوّن ورقه بالبنفسج، إذ كان في كل عمل يكتبه يتحفنا بفلسفة جديدة للكتابة، فكيف لنا الآن أن نرثي من رسم على ضفاف الإبداع ألواناً من الأدب والفن، فكما طفولة الصبح تعلم الشمس كيف تغازل النهار لينشر إشراقتها على الكون، هكذا سيبقى حسن سامي اليوسف اسماً من ألق يخلده الزمن.