صمت القبور

آراء 2024/08/14
...

 حسن الكعبي 


لم يكن الاقدام على ضرب غزة ومحاولة تدميرها بالكامل وابادة جميع من فيها ، مجرد قرار مجنون من قبل الصهيونية ، كما ان استهداف اليمن واجتياح لبنان واغتيال القيادات الوطنية في المقاومة ، لم يكن هو كذلك ايضا، فالإقدام على هذه الخطوات التدميرية، هو نتاج طموح متوثب لتدمير المنطقة بالكامل ومحوها لصالح اقامة دولة اسرائيل الموعودة ،دولة شعب الله المختار الذي يمثل مرجعية ذاته والاكتفاء بها، وتعميق الهوة مع الاغيار، الذين يمثلون في حدود - التصور الصهيوني - شعوب طفيلية متجاوزة على ارض الاسلاف ، ووفقا لذلك وفي حدود هذه التصورات التمركزية، فانه لا يمكن التعاطي مع هذه الشعوب على ارضية المشترك الانساني ، بل في حدود ثنائية ( الانا الحق والاخر الذي يجب استبعاده)،  وقد نما هذا الطموح في ظل تخاذل المواقف العربية ، التي لم تقف بمواجهة هذا العدوان وهذا الامتهان لكرامة الانسان واهدار مقدراته وتدمير بناه التحتية ومؤسساته المدنية ، التي لم تنجو منها حتى المدارس والجوامع والمؤسسات المدنية التي تعرضت لإبادات جماعية تشهد عليها المشاهد المروعة لركام الجثث المعبأة باكياس، ودون ان تكون لها ملامح او هوية دالة عليها ، وهي رغم ما تعبر عنه من مأساة إنسانية كبيرة ، الا انها لم تجابه برد عربي صارم على هذا التوحش وهذا الشر الذي تجاوز حدوده.

ان الصمت العربي بل التواطؤ العربي الذي تجسده المواقف الشامتة والتصريحات الكريهة التي تنطلق من تمركزات ايديولوجية او مذهبية او ثقافية حتى ، تبقى من اكبر اسس شرعنة العدوان والتجاوز الصهيوني على هذه الشعوب التي لا ذنب لها سوى الدفاع عن اراضيها ومقدساتها وحقوقها الانسانية .

ان التواطؤ العربي عبرت عنه التصريحات الشامتة التي تنظر الى ما يحدث بأنه استحقاق لهذه الشعوب لاسباب (كذا وكذا) وبعضها ذهبت الى ربط هذه الوحشية بالعقاب الالهي الذي استحقته هذه الشعوب ، كتصريحات تنبعث عن عصابيات مقيتة وتصدر عن عقليات مريضة تتغذى من اجندات ظلامية ، هاجسها تكفير ما عداها ممن يخالفها في التوجهات المذهبية والاعتقادية والدينية ، ولكن يبقى الاغرب من هذه التصريحات والتوجهات الصادرة عن الجهل المعمم او العقل المستقيل – على حد تعبير محمد عابد الجابري- هو موقف النخب العلمانية العربية ، التي تقرأ الاحداث على انها حتميات لما بشرت به نبوءة – فوكو ياما – بنهاية التاريخ وسردياته الكبرى، وسيما السردية الاسلامية واندماجها بالإمبراطورية العلمانية الظافرة ، باعتبارها في - حدود تصوراتهم -الصيغة الانسانية الكبرى في حل مشكلة التعايش الانساني ، هذا على الرغم من معرفتهم بالفشل الكبير الذي منيت به العلمانية في بلدانها في حل ابسط المشكلات الانسانية، بل انها كانت اهم الاسباب في صناعة هذه الاشكاليات وادارتها داخل مجتمعاتها ، ومن ابسط هذه الاشكاليات ، هي اشكالية الاسرة وتفكهها في ظل مفهوم الحريات الجنسية واجازة اقتران المرأة بالرجل بدون زواج وامكانية هجر الرجل للمراة بعد ولادة الاطفال وتحميل المرأة هم الاعالة ، وهو ما تسببب بكارثة اجتماعية واقتصادية اصطلح عليها المفكر الكبير عبد الوهاب المسيري بـ(تأنيت الفقر).والذي حاولت العلمانية ان تعالجه بمشكلة اكبر من خلال مفهوم ( الفينميزم او النسوية) الذي ترشح عنه اشكالية اخلاقية معقدة تعبر عنها الحرية المثلية والتي ساهمت اسهامة كبيرة في تفكك الاسرة وانهيارها ، وبالرغم من ذلك فان التصورات العربية تقع بمجاورة مع هذه المفاهيم الكارثية ، وعلى فرض نجاعة العلمانية في معالجة الاشكاليات الانسانية – جريا مع تصورات العلمانيين العرب – فهل تستحق العلمانية من اجل ان تطبق مبادئها ، هذا المسيل من الدماء النازفة عن  الضحايا البشرية وهذه الابادات الجماعية .

ما نخلص اليه انه في سياق هذا التواطؤ وعدم التعارض العربي ، مع هذه النوعية من القرارات الوحشية ، وقراءة اسرائيل لهذه المواقف المتخاذلة التي جاءت في احسن احوالها مجرد ادانات خجولة, فانه من غير المستغرب ان تتجسد هذه القرارات عمليا على هذا النحو الاجرامي المتوحش ، ومن ثم فانه لم يعد مستغربا أن تستذئب (اسرائيل ) فعلى حد تعبير- وليم شكسبير- في مسرحية ( يوليوس قيصر) في سياق تشريحه لظاهرة الطغيان اللامتناهي عند القيصر "أنه ما كان لقيصر ليستذئب لو لا أنه رأى الرومان خرافا ليس إلا, وما كان ليستأسد لو لا أنه رأى الرومان أيائل".