الروح الجماعيَّة في الفولكلور الشعبي

ثقافة شعبية 2024/08/15
...

 وجدان عبدالعزيز

كل أمة من أمم العالم لها الحق في أن تفخر بإرثها الثقافي، كون هذا الإرث يمثل الهوية الثقافية التي تميزها عن غيرها، ولا أريد التحدث عن هذا الإرث الكبير للعراق، لأنه احتاج لمجلدات من الكتابة ولزمن ليس بالقصير، ولكن سأدل على الجوانب المشرقة في هذا الإرث الثقافي، ومنها العمل الجماعي في صناعة الجمال والحياة، ولهذا انطلقت من حالة التواصل مع حضارة العالم، لأكتشف أن تراث العراق والحضارة العراقية بُنيا على العمل بروح الجماعة، بحيث عكست وجه تراث العراق وحضارته الإنسانيين، ومنذ تاريخ السومريين والبابليين، فلو أخذنا قضية الخلود التي توصل لها كلكامش، وثبت أن الخلود يكون بالعمل الصالح وفي خدمة الآخرين، وحين نصعد مع التاريخ العميق للعراق لوجدنا حتى الغناء والرقص يعكس هذه الروح الجماعية مثل الجوبي والهيوا والدبكات الكردية وكلها تتطلب اشتراك مجموعة من الناس، وكذلك الألعاب الشعبية مثل المحيبس إضافة للحكايات والأساطير وقصص الجن وقصص البطولة والمغامرات، ولو تسلسلنا مع التاريخ وحسب محطاته لوجدنا الطقوس، التي مارسها أبناء العراق في أيام الوفاة والزواج والعمل، مثل تقليد "العونة" بين الفلاحين العراقيين و"النخوة" بين أبناء الريف، وغيرها من عاداتنا التراثية الجماعية الجميلة
والمعبرة.
فالأغنية الشعبية كما أسلفنا هذا التراث الفولكلوري العريق، تمثل متنفساً عاطفياً في كثير من الحالات النفسية، التي يمر بها الشعب، أو الفرد على حد سواء، مثل التعبير عن الفرحة، أو الحث على القتال والحماسة، أو استنهاض الهمم لإنجاز عمل ما، أو التسلية والترفيه وغير ذلك، مثلما يعرف باسم "الأبوذية والعتابة" كما في جنوب العراق وبين الحقول والمراعي وعلى ضفاف الأنهار وفي بطون الأهوار تعيش الأغنية الشعبية في كل فم وحنجرة، فتزدهر وتنمو كما يزدهر وينمو العشب الأخضر في مواسم الربيع، فتراها راقصة سكرى مع الأمواج في المشاحيف الجميلة، عاكسة روح الجماعة وهموم أفرادها، وحتى نقف موقف المحافظ على هذا التراث الحضاري الشعبي، حيث سيتمثل موقفنا بتعميق الهوية الوطنية والقومية الثقافية لعراقنا الحبيب ومحاربة المحاولات وما أكثرها، التي تستهدف طمس هذه الهوية الحضارية الإنسانية، التي تحمل روح العمل الجماعي والوقوف بجدية الحياد والانتقائية في عصر العولمة والحفاظ على إرثنا الحضاري والفولكلوري من جهة، والأخذ بناصية التطور التكنولوجي من الجهة الأخرى، فيكون عملنا الجماعي مستلهماً إرثه الثقافي والحضاري ومثالاً لكل الشعوب في هكذا تعاون وتعاضد اجتماعي، وهذه تتطلب خطة وطنية جادة للحفاظ على التراث الشعبي، لتنشيط فعالية التأثر والتأثير، بمعنى الانفتاح على حضارات العالم والتأثر بها والتأثير فيها، كي تكون حضارتنا وإرثنا الثقافي إنسانيين بامتياز، وهذا يتم بتفعيل نشاط المراكز البحثية المتخصصة، وكذلك دعم المتاحف المتخصصة، وإيقاف المد أو في الحقيقة ايقاف هجمة تحاول عزل هذا الإرث وجعله مناطقياً أولا، وثانياً الحط منه والتقليل من أهميته، بينما هو إرث ثقافي عراقي واحد فالجنوب يعانق الوسط والشمال بكل خصائص العمل الجماعي الإنساني وبما أنه يتسم بإنسانيته، لا بد من تمتين العلاقة وتبادل الخبرة مع الدول، التي قطعت شوطاً كبيراً في إحياء تراثها، للافادة من خبرتها وتجاربها، ولا بد من أخذ أهمية وجود تشريعات تحمي إحياء تراث العراق الحضاري على محمل الجد والعمل الجاد، فثقافة العراق تعد واحدة من أقدم الثقافات في العالم تاريخياً، حيث يطلق على مكان العراق بلاد مابين النهرين الذي نشأت عليه الحضارات القديمة وتركت أثرها الواضح في حضارات العالم (في اختراع الكتابة المسمارية، وتخطيط المدن، وتطور علم القانون في العالم القديم) ثقافياً، وهو البلد المعروف عنه كثرة الشعراء، والرسامين، والنحاتين فيه، ومن بينهم من يعد الأفضل في العالم العربي، وبعضهم الأفضل على المستوى العالمي، بل وأطالب أن يكون الاهتمام عالمياً بالإرث العراقي، لأنه إرث عالمي في روحه الإنسانية وقدمه الضارب في أعماق
التاريخ.