رعد أطياف
الذات التي تعاني من مرض التحزب يندر فيها الاعتدال والموضوعية؛ أما أن تكون معي أو ضدي، هذه العدوى التي لم يستطع التخلّص منها خلق كثير. فسواء كنّا دينيين أم دنيويين سيبقى شبح الضغائن والعدوانية يطاردنا حتى في أحلامنا. حتى خصوماتنا تتخذ صفة الفجور ويغيب فيها شرف الالتزام بالموضوعية. ثمة آية قرآنية عظيمة تقول «وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ..» أي لا تفسدكم الضغائن على حساب العدل، كونوا عادلين مع المبغض والمحب، بكلمة واحدة: كونوا موضوعيين. لا الشرائع الدينية، ولا لوائح حقوق الإنسان، استطاعت أن تلجم هذه النفس البشرية التي أفسدها الغضب والكراهية.
واستناداً إلى معايير ذات طابع ذاتي هي إلى الأهواء النفسية أقرب منها للمنطق الموضوعي نقحم الآخرين بأحكام مسبقة فيها من الإجحاف ما يجعلنا كائنات غائبة عن الوعي تماماً، إزاء طبيعة الأشياء مثلما هي لا كما تصورها لنا أهواؤنا النفسية.
لذا، لكل منا معاييره الخاصة تجاه الآخرين، فمن هذه الزاوية المحددة يصعب علينا فهم الآخر الذي يقع خارج أحكامنا المسبقة. الآخر الذي لا يشاركنا النقطة المرجعية ذاتها، يبقى مأسوراً في دائرة النفور واللامبالاة والقسوة في الأحكام من قبلنا. ببساطة شديدة: إنه ليس نظيراً لنا ولا يدخل في حساباتنا الشخصية.
ضمن هذا المنطق الربوبي والذاكرة الممانعة نصاب بعمى الآخر، وما نرضيه لرغباتنا يغدو رجيماً عند الغير، طالما لا ينسجم مع مألوفاتنا، ونبقى أسارى لهذا الحال المؤلم كما لو إننا عبيد لهذه الأحكام الانتقائية.
ولمزيد من الصلابة نضفي سيلاً من التبريرات لتعزيز وشرعنة تهويماتنا الذهنية إزاء الذات والآخرين بطرق قد تبدو مُضحِكة وصبيانية لا تصمد حتى أمام أبسط العبارات النقدية. وتغدو الذات عبارة عن عقيدة صلبة تتراكم فيها شتى ألوان العصاب والهلاوس الذهنية، ويغدو الوجود مُقَطَّعاً إلى أوصال، وهذه الأخيرة تتحول إلى مواضيع مُعَدَّة لا إلى كشف معرفي خالص بقدر ما تتحول إلى سجن لتحزباتنا الضيقة.
فمن ضمن الكثير من العثرات التي يقع فيها فكرنا: التجزئة والتحيّز. والمقصود هنا إن الفكر يتخذ انطباعات متحيزة لحالة دون أخرى؛ فهو يميل إلى المديح والثناء ويستاء من الذم والانتقاد. يشعر بالطمأنينة والعطف والشفقة والرحمة على من يحبهم، لكن سرعان ما تختفي هذه الأمور مع من يختلف معهم برأي أو موقف أو وجهة نظر.
يبدو هنا الفكر متشظياً إلى أجزاء ولا يقبل أن يتعرض كبرياؤه إلى جرح حتى لو كان هذا الجرح يعمّق التجربة والحكمة! دائماً ما ننظر إلى الأشياء من جهتها المرغوبة لنا لا من حيث طبيعتها كما هي. فنحن نعلم جيداً إن كل أنماط المواقف في هذه الحياة تمنحنا قوة مضافة ورباطة جأش كلما كانت صلبة ومؤلمة، لكننا نصمم على الهروب منها ولا نصمّم على مواجهتا، علماً إنها لا تختفي حينما نهرب.
لا توجد هنا دعوة للبحث عن المشكلات مع الذات والآخر، وإنما التعلّم منها حينما تأتي بمزيد من القوة وبمعزل عن المشاعر المؤلمة، التي تحيل الفكر إلى حَكَم متحيّز يحب ما يعجبه ويكره ما لا يعجبه. كلنا نضعف في اغلب التجارب، ولا يخلو المرء من هذه الحمولات الثقيلة، التي تهز كيانه وتجرح كبرياءه، وما زالت سلسلة خيبات الألم ومضادات الرغبات؛ كاللقاء مع من ليس نحبهم، والابتعاد قسراً عمّن أحببناهم، وفقدان أعز ما نملك.. إلخ فنحن أمام تجارب لا يمكن الهروب منها، ولا سبيل سوى التعلم منها لتغدو الأشياء في نهاية المطاف (حلوها ومرها) مدرسة مجانية يتعلم منها الأميّ والأستاذ الجامعي. أما الغرباء، هؤلاء الأقليّة، فلهم كوكبهم الخاص، فطوبى للغرباء.